قد يبدو اعتبار سقوط تدمر العسكري في يد تنظيم «داعش»، كارثةً، بفعل «التهويل» الاعلامي الكبير. غير أن هذه الكارثة ليست فقط على المستوى الحضاري والتراثي فحسب، بل إن التأثيرات الإنسانية هذه المرة، تبدو مضاعفة. على الأقل هذا ما يمكن اختباره من شهادات الجنود والطيارين وسائر العسكريين المتواجدين في محيط المدينة حتى اللحظة، أو المنسحبين منها تحت وطأة الإصابة.
«اجتياح حقيقي بكل معنى الكلمة»، هكذا يسمي أحد الضباط توسّع «داعش» في صحراء تدمر. ويضيف: «الآلاف من الوحوش البشرية الذين لا تردعهم أحوال جوية ولا يبالون بتفجير أنفسهم في مواجهة أي سدّ دفاعي. منظّمون ومنسجمون مع إدارة عسكرية واحدة، نجزم بأنها بإشراف استخباري غربي مباشر». كلام الضابط يؤكده تقدّم جديد أحرزه مقاتلو التنظيم أمس، جنوب مطار T4 العسكري، بعد ضغط إضافي على قصر الحير والمشتل وبرج السيرياتل، ما أفضى إلى تحول هذه المناطق إلى نقاط اشتباك، والسيطرة عليها أضحت تحت رحمة معارك كر وفر. مسلحو التنظيم تمكنوا إثر ضغطهم على النقاط المذكورة من السيطرة على ما سموه «مفرق القريتين»، وهو الطريق الواصل بين مطار T4 والقريتين، غير أنه يبعد عن المدينة التي تعد أهم أهداف «داعش»، مسافة 30 كلم. الأيدي الخفية التي ترسم تحرك «داعش» وخططه في طريقه نحو القريتين، تعي جيداً أن أبرز عراقيل التنظيم في طريقه هذا حالياً، ليس إلا المطار الذي يكشف المنطقة على سلاح الطيران السوري وحلفائه. الجيش السوري اعتمد مبدأ تحصين المطار، ليبقى صامداً رغم الضغط المتواصل، إذ تم تأمين نقاط دفاعية عدة شمال وشرق قرية تيّاس، التي ينسب اسم المطار القديم إليها. دبابات «داعش» وآلياته كانت أهدافاً مباشرة للطيران السوري. طيارو مطار كويرس (ريف حلب الشرقي) الخارجون من الحصار الشهير شكّلوا قوة أساسية في حركة الطيران من وإلى T4 رغم الأحوال الجوية التي أعاقت إقلاع الطائرات أمس. أحد الطيارين أكد أن ورش رصد ومراقبة متواصلة داخل قاعدة T4، اعتمدت استقدام تعزيزات جديدة قوامها وحدات اقتحام، إضافة إلى طيارين آخرين متخرجين من «مدرسة كويرس الجوية»، ما يعني جولة قتالية جديدة، يدعمها طيارون متمرسون. التعزيزات الجديدة، بحسب الطيار السوري، مكّنته من الجلوس أمس والاكتفاء بإحصاء الأهداف التي تتم إصابتها، عبر الجو، لمسلحي التنظيم، بعد أيام متواصلة افتقد خلالها الراحة، مع سقوط تدمر الأثرية.
لا يسود التفاؤل مزاج العسكريين في المنطقة. هم ليسوا متشائمين أيضاً. يعتمد معظمهم على الإمكانات المتوافرة لديهم، بهدف الالتفاف على الخسارة الأخيرة.

يساند مطارا الشعيرات والسين القوات في محيط «T4»
الحديث عن تدمر مثار شجونهم، حيث يشكّل سقوط المدينة مجدداً، نكسة عسكرية وإنسانية. أحد الضباط الميدانيين يقول «انسحبنا من المدينة. هذا الأمر حدث وانتهينا منه. الخطوة التالية أن نقطع طريق داعش المعد لمقاتليه، الذي أضحى معروفاً، قبل أن نعاود استرجاع المدينة والحقول النفطية والغازية». أحد الجنود المنسحبين من المدينة تحت وطأة إصابة بالغة يروي كيف تمت إصابته في مواضع عدة من جسده، عبر رصاص مباشر من مسلحي التنظيم. ويقول: «وصلنا إلى حد الاشتباك المباشر، على بعض المحاور. كنا نراهم بأم أعيننا. المواجهات بالرصاص كانت على أشدها، قبل أن أتعرض للإصابة. أنا بانتظار أن أتحسن، كي أشارك في عملية استرجاع المدينة من أيديهم». لا تنقص الجنود إرادة القتال على الرغم من بعض الاستياء هُنا أو هُناك من خسارة المدينة. الجميع يهجس باستعادة تدمر أو أقله على المدى القريب وقف مد «داعش» باتجاه القريتين. المطارات العسكرية في المنطقة، وعلى رأسها مطارا الشعيرات والسين تساند القوات المتمركزة في محيط T4، منعاً من حدوث مفاجآت سيئة لاحقة. يبتعد المقاتلون عن إلقاء التهم والمسؤوليات فيما بينهم، على الرغم من ازدياد أعبائهم، إثر الخسائر الأخيرة. يعبر أحدهم عن ذلك بالقول: «دمعتان ذرفتهما مع الانسحاب من تدمر، في المرة الأولى. لم أذرف مثلهما هذه المرة، إذ يسود الواقع الميداني اليوم جوٌّ من الرغبة بتحقيق ما يبرّد نار أهالي رفاقنا ممن استشهدوا دفاعاً عن المدينة». ويتابع: «لم يكن هنالك متسع من الوقت للعواطف، فقد اضطررت إلى حمل صديقي على كتفيّ مسافة طويلة، بعدما كنت أعتقد أنه شهيد، وأني أنجو بجثمانه. صديقي الآن في أحد مستشفيات حمص، وقد زال عنه الخطر. هذا يكفي مبدئياً، وأمامي الكثير من العمل الآن». أحلام الجنود، بمعظمهم، تتركز،اليوم، حول ألا يتم التهاون بجهودهم المبذولة في الميدان. قضايا السلام وإحلال العدالة والعودة إلى بيوتهم ما عادت تشغلهم، بقدر ما بات يهمّهم ألا يعاودوا العمل على جبهة تم تحريرها سابقاً. يقول الضابط السوري: «أقسى ما يمكن أن أتفوه به خلال عملي العسكري الآن: تدمر عدو. وهو استفزاز كبير لنا جميعاً لتتوافر إرادة تغيير مجريات الأوضاع، وإعادة تدمر مركزاً للقلب وقيمة غالية تنبض بذكرياتنا مع رفاقنا الشهداء على جبهاتها».