طوبى لكم شهداء الكنيسة البُطرسيّة في مصر المحروسة (محروسة؟). بما أنكم صعدتم إلى السماء، وتركتمونا لبندول المجهول، فصلّوا لأجلنا. صلّوا من أجل بني وطنكم، الذين يُساقون إلى عصر الآلام، والجنون.
رسائل الوداع التي بعثت بها مونيكا، وأخوها مينا، لأمهما عايدة ميخائيل، تقطّع القلب. التلاميذ القدامى والجدد (مسلمون ومسيحيون)، يتسابقون لتوديع المعلمة الشهيدة «روجينا رأفت» بعبارات عفويّة، دافئة: «ح توحشينا يا ميس روجينا. في الجنة يا ميس. في أحضان القديسين يا أجمل روجينا في العالم».
بعد نحو أسبوعين (رأس السنة الميلادية)، ستدق أجراس الكنائس، لإحياء الذكرى السادسة لشهداء تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية (زمن المخلوع مبارك)، الذي حُفظت فيه التحقيقات، وقيّدت ضد مجهول. سينضم شهداء «البطرسيّة»، إلى قوائم البكائيّة المناسباتيّة التي سيرعاها البابا تواضروس، وتنقلها وسائل الإعلام على الهواء مباشرةً. سوف يُصبحون ذكرى جارحة على صور مزخرفة في مداخل بيوت ذويهم، ثم عادي جداً (تستمر الحياة بين ابتسامة وآه). عبارة الشاعر الكبير سيّد حجاب، تأخذنا إلى أسئلة الضرورة: وماذا بعد الإدانات العالميّة؟ ماذا بعد تشديد الأمن الداخلي، وإعلان الحداد، والجنازة الرسميّة المهيبة للشهداء؟ ماذا بعد التشنُّج العاطفي الشعبي غير المُصطنع؟ كيف نقرأ الخطوة التالية من بين ركام السطور؟
عقليّة مصر الرسميّة لم تتطوّر (كأن مبارك لا يزال يحكم). لم تقرأ بعد سوى أن هناك مؤامرة، وأن نشطاء من حَرَكات سياسيّة هتفوا ضد الحكومة، وحرضوا المتجمهرين أمام الكاتدرائيّة، لتّسْييس ما جرى، بهدف إشعال الفتنة في البلاد، وتدمير نسيج الوحدة الوطنيّة (غريبة. هل هناك حَرَكات لم تدخل غيبوبتها الإجبارية؟ هل كل هذا العدد من الشهداء يدخل في نطاق برامج الكارتون؟).
رجال الدولة، والوزراء، والمسؤولون، ومن خلفهم، إعلاميون (بعضهم تعرض للضرب من قِبل الغاضبين في مكان التفجير)، وخبراء أمنيون، لا يتهمون الجهاز الأمني بالتقصير والإهمال الكارثي (لا بوابات إلكترونية لفحص الحقائب في مكان حسّاس كهذا؟!)، ويبررون بالقول (بيحصل في تركيا وفرنسا أكتر من كده). لم يستقل رجل الأزمات، اللواء مجدي عبد الغفار. لم تقرر الرئاسة إقالة وزير الداخلية برغم أن القرار قد يخفّف من حالة الاحتقان. يحيى الكدواني عضو لجنة الدفاع والأمن القومي في البرلمان، يعكس توجّه ورؤية الدولة: «اللواء مجدي عبد الغفار، من أفضل وزراء الداخلية الذين تولوا منذ 30 سنة. رجل يعمل في صمت، مصر في حالة حرب، والمواجهة صعبة. سحب الثقة من وزير الداخلية ليس الحل، نحتاج لتدابير أخرى».
قبل «ثورة يناير»، كان مبارك يستغل أحداث إرهاب كهذه، لصرف انتباه الداخل والخارج، عن غياب الديموقراطية والأزمة الاقتصاديّة وإحكام قبضته البوليسيّة، وتمرير أوضاع وإجراءات استثنائيّة. كان يقول إنّ الفوضى العارمة هي البديل الوحيد لنظامه السياسي. لم تكن حكومات المخلوع وحكومات السادات أيضاً، تخرج عن التعامل العابر مع هيْكل أي حادثة (يُسمونها طائفيّة)، من دون الاقتراب من المعنى (حقوق المسيحيين في بناء دور العبادة والوظائف وإلغاء أشكال التمييز في القوانين كافة). طبعاً، كان الرئيس الأسبق يستعين في هذا كله برجال الكنيسة الرسميّة، ونخبة رسميّة هشّة، تُبرّد الأجواء وترسم ابتسامات ساذجة في الصور، بينما يتطاير في الهواء، شعار «ثورة 1919» البريء، المُستهلك «يحيا الهلال مع الصليب».
السيناريو نفسه يتكرّر. تدابير جديدة في الطريق (أمنيّة بامتياز). الصوت الأعلى الخارج من دوائر الطبقة الحاكمة يكيل اتهامات التخوين، والعمالة، إلى كل من ينتقد فيه التراخي الأمني في مواجهة الإرهاب. هناك حملة شبه رسميّة تروّج لعسكرة القضاء وإجراء تعديلات على قانون الإجراءات الجنائيّة، بدعوى تسريع التقاضي، وإقرار قوانين أخرى مثيرة للجدل. بعض نواب البرلمان يطالبون بفرض قانون الطوارئ في كل القاهرة الكبرى (العاصمة، ومحافظتي الجيزة والقليوبيّة) وآخرون، يطالبون بفرضها على عموم البلاد لثلاثة أشهر.
تفجير الكنيسة البطرسيّة يهزّ الصورة النمطيّة التي روج لها كثيرون، حول علاقة المسيحيين، بدولة «30 يونيو». فكرة المواطنة جريحة. الحادث، يأتي بعد أشهر قليلة، على واقعة التعرية البربريّة لسيدة مسيحية، في المنيا (أيار/ مايو الماضي). بقي كافة المسؤولين الأمنيين في أماكنهم، ولم يُقدم أحد إلى محاكمة (الجلسات العرفيّة فردت عضلاتها، والجميع لمّ الموضوع). وقعت جرائم أخرى بحق المسيحيين في محافظات عدة في أسابيع لاحقة ( تهجير جماعي. منع الصلوات في دور عبادة بديلة، اعتداء على ممتلكات وإصابة أشخاص في مشاجرات كبيرة). الشباب الغاضب الذي كان يهتف ضد الأمن، أمام الكاتدرائيّة، بعد الحادث الأخير، محشور بين سلطة روحيّة بطريركيّة (البابا تواضروس) تدعو إلى الهدوء، وسلطة رسميّة عاجزة عن تبديد شعوره بالانسحاق والتشظي في الواقع المُعاش.
العام الجديد على الأبواب، وكذلك ذكرى وفاة «ثورة يناير». تفجير الكنيسة البطرسيّة، الذي يجيء في سياق عام من موجات غلاء معيشي، وإحباط شعبي، وديموقراطية مريضة، يرى مراقبون أنه سوف يُسرّع بكشف النقاب عن حدّوتة يجري نسجها منذ فترة. خريطة سياسيّة جديدة (مصر 2017). قوانين صارمة، ومحاكمات جنائية عاجلة، وإجراءات فوق استثنائيّة، تبلع بقايا «الصوَيْت» المعارض الحالي (حقوقي- حزبي- سياسي- صحافي- أفراد)، وتُخلي الطريق أمام عربة السلطة الفخيمة التي لا ينتبه قائدها إلى أنها تعود، إلى الخّلف.