منذ أعلنت الولايات المتحدة الأميركية تشكيل «التحالف الدولي» تحت عنوان محاربة «داعش»، بعد سيطرة الأخير على مدينة الموصل العراقية في 10 حزيران 2014، تحوّل قتال التنظيم و«مكافحة الإرهاب» ذريعة للتدخل العسكري الأجنبي المباشر، جوّاً وبرّاً في سوريا والعراق.
وسمح تمدّد «داعش» خلال العامين الماضيين للقوى الغربية والإقليمية، لا سيّما الولايات المتحدة وتركيا، بالتمدّد العسكري وبناء القواعد العسكرية في الغرب العراقي والشرق والشمال السوريين، بغية قتال التنظيم باستخدام القوّة الجويّة، ونشر مئات بل آلاف الجنود والضباط من الوحدات الخاصّة الأميركية والفرنسية والبريطانية والألمانية والتركية، التي تقود مجموعات من المتعاملين معها تحت مسمّى «قوات محليّة» مدرّبة في معسكراتها، تمهيداً لإدارة هذه الجماعات الأرض التي «تحرّرها» ضمن إدارات محليّة، بديلاً من الدول الوطنية المركزية.
وكما كانت الحدود العراقية السورية هدفاً للقوات المدعومة أميركياً وأردنياً، على شاكلة «جيش سوريا الجديد» الذي يحاول الانتشار في نواحي معبر التنف الحدودي قرب مثلّث الحدود السورية ــ العراقية ــ الأردنية وصولاً إلى معبر القائم ومدينة البوكمال، فإن الجنوب السوري لم يبقَ طويلاً بعيداً عن هذه المعادلة في ظلّ الأطماع الإسرائيلية، خصوصاً بعد أن استطاع «داعش» تشكيل «إقليم» خاص به في مثلّث الحدود «السورية ــ الأردنية ــ الجولان المحتل» في منطقة حوض اليرموك، بداية تحت جناح ما كان يسمّى «لواء شهداء اليرموك» وقائده أبو علي البريدي الملقّب بـ«الخال»، ثمّ تحوّل بعد اندماجه مع «حركة المثنّى» (حركة تكفيرية التصقت طويلاً بجبهة النصرة مستفيدةً من دعم «الموك»، قبل أن تعلن فصائل «الموك» الحرب عليها) إلى «جيش خالد بن الوليد».
ودعم الأردنيون و«غرفة الموك» طويلاً جماعات المعارضة المسلّحة المتحالفة مع «جبهة فتح الشام/ جبهة النصرة» في الجنوب لقتال الجيش السوري، ولاحقاً لقتال «داعش»، فيما تتكفّل إسرائيل بدورها بمدّ هذه المجموعات بالعلاجات الطبيّة داخل مشافي الكيان المحتل، وتقدم لهم الدعم اللوجستي والمعلوماتي، فضلاً عن بعض الأسلحة والذخائر «الناعمة».
وكما هي الحال بين تركيا و«داعش» في الشمال والانقلاب التركي على التنظيم في الأشهر الأخيرة، بعد سنوات من الدعم العسكري واللوجستي وتسهيل مرور الإرهابيين الأجانب من مختلف أنحاء العالم إلى الأراضي السورية والعراقية، انتهت «شهور العسل» والتعاون الإسرائيلي في الجنوب السوري مع «لواء شهداء اليرموك» والبريدي في السنوات الأولى من الأزمة. وحصل «الخال» (قُتل في تفجير انتحاري للنصرة) في أعوام 2012 و2013 و2014 على امتيازات من شعبة المخابرات العسكرية الإسرائيلية «أمان»، منها تسهيل أمور جرحى المسلحين الآتين عبره للعلاج في مشافي الكيان المحتل، وحصوله على شبكات اتصال وأرقام خلوية إسرائيلية تصعب على الاستخبارات السورية متابعتها ورصدها، في الوقت الذي كان يجمع فيه عدداً كبيراً من المدرعات والدبابات والأسلحة المتوسّطة.
ولم تكد واشنطن تضع «لواء شهداء اليرموك» على لائحة الإرهاب في حزيران الماضي، ويعلن وزير الدفاع أشتون كارتر في نهاية تموز الماضي نية «التحالف الدولي» «فتح جبهة جديدة ضد إرهاب داعش في الجنوب السوري»، حتى دخل جيش العدوّ على خط التذرّع بـ«مكافحة الإرهاب» والحرب على «داعش»، بدءاً من شبه جزيرة سيناء المصرية وصولاً إلى حوض اليرموك، عبر تسليط الضوء على وجود «داعش» قرب حدود الجولان المحتل، علماً بأن «الإمارة الداعشية» يزيد عمرها على عام ونصف عام (راجع «الأخبار»، العدد ٢٦٨١). وكانت وكالة «أعماق» التابعة لـ«داعش» قد أعلنت، في 29 تموز الماضي، قيام طائرات حربية إسرائيلية بقصف مواقع تابعة للتنظيم في الشيخ زويد ورفح المصرية.

توغّل في كفرإلما

مع ساعات الصباح الأولى من يوم أمس، توغّلت قوة إسرائيلية راجلة في بلدة كفرإلما في حوض اليرموك، الخاضعة لسيطرة «داعش»، وقامت بعملية تمشيط للبلدة الخالية من السكان، ومن ثمّ عمدت إلى تفجير مجموعة من المنازل والخرائب القديمة في البلدة، إضافة إلى تفجير بقايا موقع مهجور تابع للقوات الدولية العاملة في الجولان «الأندوف» كان «داعش» يستخدمه كسجنٍ ويضع فيه عدداً من المساجين الموقوفين من المجموعات الأخرى، وموقوفين من أبناء المنطقة بتهمٍ متعدّدة، بينها التدخين. وتقع كفرإلما على السفح الغربي لوادي الرقاد، وتبعد أمتاراً قليلة عن خطّ «برافو»، وهو الخط الشرقي للمنطقة المنزوعة السلاح بين الجولان المحتل والمحرّر، وتقابلها على السفح الشرقي للوادي بلدة جملة التي يتّخذ منها داعش مقرّاً له. وانسحب جيش الاحتلال من كفرإلما بعد حرب 1973، لكن إسرائيل بقيت تطالب بضمّ البلدة إلى المنطقة المنزوعة السلاح حتى عام 2002. ولم يكن أهالي البلدة باستطاعتهم الوصول إليها أو إلى أراضيهم الزراعية من دون الحصول على إذن إسرائيلي عبر القوات الدولية.

بدأ هجوم المجموعات المدعومة من «الموك» على مواقع التنظيم عبر ثلاثة محاور



ويأتي توغّل أمس استكمالاً لما أعلن عنه جيش الاحتلال يوم الاحد، عن استهداف طائرة من دون طيار آلية لـ«داعش» تحمل رشاشاً ثقيلاً وقتل ثلاثة عناصر داخلها، بذريعة إطلاق «داعش» النار على دورية إسرائيلية قرب حدود الجولان المحتلّ. إلّا أن «الأخبار» علمت من مصادر متعدّدة، بينها مصادر أمنية ومن داخل حوض اليرموك، أن قوات الاحتلال طلبت من «داعش» إخلاء مقرّ القوات الدولية في كفرإلما يوم الخميس الماضي، فقام عناصر «داعش» بإجلاء السجناء من المقرّ، والإبقاء على عناصر الحراسة ودوريات في المنطقة. وقالت المصادر لـ«الأخبار» إن إطلاق النار على دورية إسرائيلية جرى من مصادر مجهولة، ولم يتمكّن العناصر من كشف الفاعل، في حين ردّت إسرائيل بتدمير المقرّ وقصف الدورية.
بيد أن التوغّل الإسرائيلي الأخير يأتي ضمن سلسلة توغّلات تقوم بها قوات الاحتلال داخل الأراضي السورية، كان آخرها التوغّل داخل بلدة المغر القريبة من بلدة عابدين، وأنشأت فيها معسكراً صغيراً وموقعاً للرصد في أيلول الماضي، وسبقه توغّل في بلدة بريقة في القطاع الأوسط من محافظة القنيطرة حوالى 400 متر، وقامت برفع سواتر ونقطة مراقبة.
ويرتبط توغّل أمس بالمعركة التي أعلنت عنها الفصائل المسلّحة المدعومة من «الموك» في ريف درعا الغربي قبل يومين ضد «داعش»، والتي يشترك في إدارتها ضباط إسرائيليون، لتكون فصائل «الجيش الحرّ» بديلاً من «داعش» في إدارة المنطقة. وتعمل الجماعات المسلحة المدعومة من إسرائيل على دفع أهالي الحوض لترك بيوتهم ولا تسمح لهم بالعودة إليها في حال خروجهم، فيما يضيّق داعش الخناق على الأهالي بإجراءات تعسفيّة وينفذ عمليات جلد وقطع أيدي وأرجل ورؤوس من يتهمهم بالسرقة والتدخين والزنى والتعامل مع الجيش السوري أو الفصائل المسلحة. وسبق للمندوب السوري في مجلس الأمن بشار الجعفري أن حذّر من الأمر قبل نحو شهر، في جلسة للأمم المتحدة. وتقوم فصائل «الموك»، ومن ضمنها «جيش الإسلام» و«حركة أحرار الشام»، بتنفيذ حصار خانق على حوض اليرموك من الشرق والشمال منذ نحو أسبوع، وبدأت بالهجوم على مواقع التنظيم أول من أمس عبر ثلاثة محاور شمالية وشرقية وشمالية شرقية، من دون تقدّم يذكر حتى ساعات متأخرة من ليل أمس، فيما تساهم إسرائيل في محور غربي. وتساهم المدفعية الأردنية من مواقعها المستحدثة مقابل وادي الرقاد بالتمهيد المدفعي لهجوم المجموعات المسلّحة، وقد قصفت أمس وأول من أمس عدّة مواقع في بلدة القصير الحدودية مع الأردن قبل معبر تل شهاب الحدودي، وأدى القصف إلى قتل المدعو أبو قسورة، وهو «شرعي» في التنظيم. وكان قد سبق للاستخبارات الأردنية أن أعدّت لهجوم على حوض اليرموك من قبل مجموعات مسلحة تابعة لها، وبدأت بتدريب 356 مسلّحاً بتاريخ 13 تشرين الأول الماضي، وعلى مدى 12 يوماً، للدخول إلى حوض اليرموك عبر بلدة القصير الحدودية، تحت عنوان «دورة أبو ساجد الأردني ــ دورة كرامة حوران»، في إحدى القواعد الجوية الأردنية، بمشاركة مدرّبين أجانب. لكن المتدرّبين رفضوا، في نهاية الدورة، الانخراط في المعركة، خوفاً من قتال التنظيم، على الرغم من المغريات والرواتب العالية التي عرضها المدرّبون.




المنطقة العازلة والحرب على «داعش»

بعد خمس سنوات من الحرب، باتت الجماعات المسلحة المدعومة إسرائيلياً وأردنياً تسيطر على غالبية الحدود مع الجولان السوري المحتل، من بلدة بيت جن شمالاً وصولاً حتى بلدة الرفيد في جنوب القنيطرة، باستثناء منطقة حوض اليرموك في أقصى الجنوب وبلدة حضر في شمال القنيطرة. ولا تخفي إسرائيل نيتها السيطرة على كامل الحدود، وتشكيل «منطقة أمنية عازلة» للجماعات المتعاملة معها، تمتد على طول الحدود وتصل حتى بلدة نوى وتل الحارة في ريف درعا الغربي، فتتبع سياسة «العصا والجزرة» مع بلدة حضر لدفعها إلى التخلي عن الدولة السورية، فيما تنفّذ عمليات شبه مشتركة مع فصائل «الموك» في حوض اليرموك. وتستخدم إسرائيل منظمة «عماليا»، وهي منظّمة تتّخذ من العمل «الإنساني» غطاءً لها، لصاحبها رجل الأعمال اليهودي الأميركي موتي كاهانا، للعمل في «المنطقة العازلة»، عبر تقديم مساعدات عينية لبعض السكان السوريين عبر حدود الجولان، وقد وصل ممثلوها إلى بلدة إنخل، كما تنشر على صفحتها الرسمية، إضافة إلى افتتاحها قسماً في مستشفى زيف في صفد لمعالجة الجرحى، وتضع سيارات جاهزة بشكل دائم على حدود الجولان لنقل «زوّار» سوريين إلى الداخل المحتل!