حتى سنوات قريبة كان أبناء مدينة الرقة يخيفون أطفالهم من المناطق الأثريّة، لتجنيبهم المساءلة إذا ما قادهم فضولهم إليها. ما دفعهم إلى ابتكار الحكاية الخرافيّة حول «السعلوة»، زوجة ملك الجان، التي تسكن القلاع الخاوية، وقد تظهر بهيئة عنزة أو قطّة سوداء، أو امرأة تبيع غزل البنات، وتخطف من يدخل قصرها. لم يخطر للأطفال، الذين باتوا اليوم شباناً، أنّ الخرافة ستغدو واقعاً. وأن «السعالي» ستسكن المناطق الأثريّة، بعدما عملت كتائب «الجيش الحر»، والكتائب المبايعة لـ«جبهة النصرة»، خلال استيلائها على المدينة، على نهب آثارها، حتى خلت الرقة من أيّ قطعة أثريّة فوق الأرض.
متحف الرقة ومستودعات هرقلة

متابعة سارقي آثار متحفي الرقة، وقلعتي جعبر وهرقلة، الأثريتين، لا تُعد مسألة صعبة. كلّ شيء موثّق بالصور والفيديو، على شبكات التواصل الاجتماعي، و«الثوّار» الذين دمّروا المدينة، هم الآن في أوروبا، يبحثون عن طريقة للتخلّص من هذه المقاطع. «أبو حذيفة الرقاوي» كما يعرّف عن نفسه، أحد مسلحي لواء «أمناء الرقة»، المُنحلّ، يروي لـ«الأخبار» أنّه «كانت مهمتنا الأساسية، الدفاع عن الممتلكات العامة والخاصة، وعن الآثار والمتاحف. بعد تحرير الرقّة أردنا حماية المدينة من السرقات التي تكثر في حالات النزوح والفوضى والقصف». ويضيف: «لم يُكتب لمهمتنا النجاح والاستمرار، بسبب ضغف الإمكانات والتمويل، وخطف قائد اللواء على يد جهة مجهولة. وخرجنا من متحف الرقة، وبقية الأماكن، مرغمين، لتصبح تحت سيطرة حركة أحرار الشام الإسلامية وتختفي كل مقتنيات المتحف، مع مغادرة الحركة للمحافظة».
جميع محاولات أبناء الرقة الذين حملوا أسلحة فردية بسيطة، وأنشأوا حامية للمتحف آنذاك، عُرفت باسم لواء «أمناء الرقة» («الأخبار»، العدد ٢٠٥١، ١١ تموز ٢٠١٣) باءت بالفشل، ولم يبقَ في متحف الرقة اليوم سوى الجدران.
أمّا مستودعات مبنى هرقلة الأثري، فكانت ضحيّة نهب المسلحين، بعد أشهر من سقوط الرقة. «قبل سقوط الرقة، أعددنا أبوابا حديدية لمستودعات قلعة هرقلة. ولم نخبر حتى الحدّاد الذي أنجز العمل، أي تفاصيل، ولا يعرف الناس عن هرقلة سوى أنها موقع لصناعة الفخار المشوي، وبعد إقفال الأبواب، جرى ردمها، وتغطيتها تماماً بالتراب». هذا ما يرويه موظّف في مديرية آثار الرقة إلا أنّ الأمر لم يدم طويلاً إذ هاجم ما يقرب من 100 مسلح مستودعات مبنى هرقلة الأثري، بعد سقوط المدينة، وسطوا على محتوياتها. ويشرح، الموظف، كيفيّة وصول المسلحين إلى تلك المستودعات، قائلاً: «استدلّوا على المستودعات عبر حماقة ارتكبها مدير آثار الرقة، حين ناشد المنظّمات الدوليّة، عبر صحيفة تشرين السورية، بحماية آثار مستودعات هرقلة. وكانت هذه المناشدة بمثابة تصريح علني عن كنز أثري، لم يبقَ منه شيء».

قلعة جعبر

أوّل عملية اعتداء على الآثار، في محافظة الرقة، سجّلت حين سرق مسلّحون ملثّمون متحف قلعة جعبر، عام 2012، وأفرغوه من مقتنياته التي كان أبرزها تماثيل للآلهة «عشتار». وكانت الهيئة العامة للآثار قد أحدثت متحفاً ضمن القلعة، يضمّ، إضافة إلى التماثيل، عدداً من اللقى الأثرية وأوانٍ فخارية، وجرار متنوعة، ومدافن تعود إلى العصر البيزنطي، لكن القلعة تحوّلت إلى مقر لـ«جبهة النصرة» بعدما فرَّ مسلحوها من الرقة بداية عام 2014، وتحصنوا في القلعة، إلى أن أخرجهم منها تنظيم «داعش»، الذي حوّل القلعة إلى مقرّ رئيس له، مستفيداً من قربها من أهم معسكرات تدريب مقاتليه، الواقع في جزيرة عايد («معسكر الصاعقة» لمنظمة «اتحاد شبيبة الثورة» سابقاً).

التنقيب مستمر

بعد سيطرة «داعش» على المدينة، عمل على إحداث هيئة مختصّة بشؤون الآثار، مهمّتها الإشراف على المواقع الأثرية، وافتتاح عمليات تنقيب منظّمة فيها، باستخدام أدوات وآلات حديثة، على عكس ما جرى في بداية دخوله، حيث دمّر، بالجرّافات، تمثالين لأسدين آشوريين، عند مدخل حديقة الرشيد. الناشط الرقاوي، أبو أحمد، يروي لـ«الأخبار» عمّا يجري اليوم: «يشرف أمراء من جنسيات مختلفة على المواقع الأثرية، والتلال والقلاع، ويتابع أمير تونسي، بنفسه، عمليات التنقيب في تل البيعة (توتول). وعمليات التنقيب تجري بواسطة أجهزة حديثة جداً، تستطيع رصد ما تحت الأرض». ويضيف: «يتركز اهتمام الأمراء على الآثار العائدة إلى العصر الروماني، ولا يعيرون اهتماماً للآثار الإسلامية. أما المكتشفات، فتحفظ في صناديق، بعد تصويرها، وإرسال صورها إلى تجّار مختصين في تركيا. وبعد الاتفاق على السعر، يجري شحنها عبر خطوط التهريب، في مدينة تل أبيض».
يعكس اهتمام تنظيم «داعش» بالآثار إلى حاجته إلى مصادر تمويل جديدة خاصّة بعدما أصبح لدى التنظيم عدد كبير من الموظفين، مدنيين وعسكريين. وفي خطوة لافتة، بدأ التنظيم بمنح «رخصة» لكلّ مواطن يرغب بالتنقيب عن الآثار في أرض يملكها، وأقبل مواطنو «الولاية» على استصدار رخص، لتنشط عمليات التنقيب في مختلف المناطق. وحول ذلك يقول المواطن أسعد علي: «بُنيت الرقة الحديثة فوق أطلال الرقة الأثرية. ولدى الأهالي هوس بوجود لقى أثرية تحت منازلهم، وخاصّة أنّ البعض عثروا، أثناء حفر أساسات منازلهم الحديثة، على جرار فخارية مليئة بالذهب. وبما أن الحكومة السورية كانت تمنع مثل هذه الأعمال، فإنّ أحداً لم يكن يمتلك الجرأة للقيام بها، حتى في ملكه الخاص». ويضيف: «اليوم أصبح ذلك ممكناً، بعدما سَمح به تنظيم داعش، وقد اشترط الحصول على خمس ثمن اللقى التي يعثر عليها أي مواطن في منزله. ولا تجري عمليات الحفر والتنقيب إلا بوجود ممثل عن التنظيم يشرف عليها».
يبقى «تل مريبط»، 90 كم غرب الرقة، هو الناجي الوحيد، في ظل ما تشهده المحافظة، وهو أوّل مسكن تاريخي يعود للألف التاسع قبل الميلاد، وقد نجا من السرقة... لأنّ مياه «بحيرة الأسد» غمرته بعد إنشاء سد الفرات عام 1974.






متحف الرقة ومدينة توتول

يقع متحف الرقة وسط المدينة، في شارع المنصور، ويعود لعام 1861. بُني من مادة الآجر، وهو فخار مشوي تشتهر به الرقة، منذ العصر العباسي. وبحسب أحد الباحثين «فقد استخدم المبنى دارا للسرايا، إبَّان الاحتلال الفرنسي، وهو مؤلّف من طابقين، يضم الطابق الأرضي لوحة فسيفسائية جميلة، تعود إلى القرن الخامس عشر الميلادي، عُثر عليها في تل حلاوة في محافظة الرقة، وجرى تزيين هذا الطابق بلوحات ضوئية لأهم الآثار في سوريا. وفيه أيضاً جناح خُصّص للآثار القديمة، وجناح آخر للآثار من العصور الرومانية، والبيزنطية، مع جناح للفن الحديث، ومستودع لحفظ القطع الأثرية». بينما يعود تاريخ مدينة توتول، أو تل البيعة، كما تعرف محلياً (البيعة، تعني الكنيسة)، إلى الألف الرابع قبل الميلاد، وتحديداً عصر «الأورك»، وهذا بحسب ما كشفته بعثة تنقيب ألمانية، بدأت عملها في الموقع سنة 1980، واستمرت حتى 1995، وتضمّ المدينة الأثرية معابد، أشهرها معبد الإله «دجن»، إضافة إلى مجموعة قصور ومدافن وكنائس، وأفران لصناعة الفخار.




قصر هرقلة وقلعة جعبر

يقع قصر هرقلة غرب مدينة الرقة بنحو 7 كم، وقد أنشأه الخليفة العباسي هارون الرشيد تخليداً لانتصاره على الروم، وفتح مدينة هرقلة، عام 806. وتُعدّ هرقلة من المناطق الغامضة جداً، وبقيت معلماً مجهولاً إلا لبعثات الآثار الأجنبية، وهذا ما جعل مديرية الآثار والمتاحف تتخذ من القلعة مستودعاً ضخماً، لإخفاء مئات اللقى الأثرية، بعد بدء الأزمة السورية، واستشعار الخطر.
أمّا قلعة جعبر، فتقع نحو 53 كم، غرب الرقة، وقد تحوّلت إلى جزيرة بعدما أحاطتها مياه «بحيرة الأسد» عام 1974. تتربّع القلعة فوق هضبة كلسية هشّة، يصل ارتفاعها، عمّا حولها، إلى 50 متراً. وارتفاع قمّتها 347 متراً فوق سطح البحر. لهذه القلعة شكل متطاول، يبلغ من الشمال إلى الجنوب، 320 متراً، ومن الشرق إلى الغرب 170 متراً، ويحيط بها سوران ضخمان، أحدهما داخلي والآخر خارجي، لا تفصل بينهما سوى بضعة أمتار، ويضمّان ما يزيد على 35 برجاً دفاعياً. وفيها مسجد ما زالت مئذنته قائمة حتى اللحظة.