الرباط | هذه الأسئلة هي التي تشغل المغاربة الآن. في الشوارع والمقاهي والبيوت، وعلى صفحات التواصل ومواقع الإنترنت، يكاد يكون الحديثُ الأول للناس هو الحراك الشعبي في الريف، والمحور الأساسي في نقاشاتهم ليس الأسباب ولا النتائج، وإنما الوقت: متى تنتهي الأزمة؟
ظل المتظاهرون في مدينة الحسيمة متشبثين بمطلب أساسي اعتبروه الخطوة الأولى لحل أزمة الريف، وهو إطلاق سراح جميع المعتقلين من ناشطي الحراك، وتَوقّع الجميع أن يتم ذلك خلال عيد الفطر الأخير في إطار ما يعرف في المغرب بـ«العفو الملكي» الذي يصدر لمصلحة عدد من السجناء في كل مناسبة دينية أو وطنية. غير أن أفق انتظارهم هذه المرة خاب.
مساء يوم السبت الماضي، وبعد صمت طويل عن الموضوع، ظهر رئيس الحكومة سعد الدين العثماني، المنتمي إلى «حزب العدالة والتنمية» الذي يقود الأغلبية الحكومية، وخاطب الناس عبر برنامج خاص أذاعته مباشرة اثنتان من أهم القنوات الوطنية، لكنّ خطابه لم يكن مقنعاً وطغت عليه لغة المهادنة والتسويف.
ومع مطلع هذا الأسبوع، خرج أمام الناس المستشار السابق للملك الدكتور عباس الجِراري، وأعرب للصحافة الوطنية عن تأسفه لإقحام الناس ملكَ البلاد في كل صغيرة وكبيرة: «الكل ينتظر تدخل الملك... لا يُعقل أن تتخلى الحكومة والمؤسسات عن مسؤولياتها ليتم الزجّ بالملك في الأزمات مثل قضية حراك الريف». الجراري انتقد تصرف الأحزاب والحكومة والمؤسسات القائم على «إسناد كل شيء إلى الملك، بحق أو باطل» ما «يضعه في موقف حرج»، إذ بدا له أنه «ليس من السهل أن يُغامر الملك في ملف شائك مثل هذا لا يمكن توقع ردود الأفعال فيه».

حين تعمّقت
الهوة بين المحتجين والحكومة بات
الجميع ينتظر الملك

وفي ظل هذا الفراغ، ظلت القوات العمومية تحاصر المحتجين، وتواصل الاعتقالات (أكثر من مئتي معتقل). وقد تسببت المقاربة الأمنية واستخدام العنف في التظاهرات في فتح الجراح القديمة بين الريف والدولة، باعتبار أنّ الريف كان لزمن طويل منطقة مغضوباً عليها من طرف الملك الراحل الحسن الثاني، الذي نعت سكانها بـ«الأوباش»، في خطاب ملكي شهير خلال الثمانينيات.
بعد أيام طويلة من تدخلات رجال القوات العمومية في البر والبحر لإسكات صوت الحراك، أخذ الناشطون المبادرة في محاولة للإعراب عن حسن النية وإتاحة الفرصة للدولة كي تتحمل مسؤوليتها وتعمل على إيجاد حلّ للأزمة. جاء ذلك في بيان أعده الناشطون، حمل عنوان «خطوة خطوة»، مفاده أن يقوم المحتجون بخطوة للتهدئة، تُقابلها خطوة مماثلة من طرف الدولة، وبالفعل فقد أوقف المتظاهرون الاحتجاج لمدة 48 ساعة، ومن جهتها أخلت وزارة الداخلية الساحة الرئيسية بالمدينة من مظاهر العسكرة.
وربما سيكون مأزق المرحلة المقبلة هو غياب مُحاور خارج السجون، فكل قيادات الحراك معتقلة، والتظاهرات تعرف قيادة ذاتية تعززها الخصوصية الثقافية للمنطقة، لذلك فلن تجد السلطة محاوراً أو مفاوضاً حتى وإن قدمت حلولاً، ما لم يتم إطلاق سراح المعتقلين.
في المجلس الوزاري الذي ترأسه الملك الأسبوع الماضي، عبّر عن انزعاجه بسبب تأخر أشغال البرنامج التنموي «الحسيمة منارة المتوسط»، الذي دشنه قبل سنتين، وعمد إلى تشكيل لجنة للتقصي ومتابعة الموضوع. آخر تطور في ملف الريف كان وراءه الملك أيضاً، حيث عقد مساء الثلاثاء مجلساً خاصاً في مدينة تطوان القريبة من الحسيمة مع عدد من المسؤولين عن القطاعات الحكومية التي لها علاقة بالمشاريع المبرمجة لمصلحة الحسيمة.
لكن قبل هذه المستجدات، وطوال الفترة الأخيرة لم يتفاعل أهل الحسيمة مع الحكومة التي أرسلت عدداً من وزرائها إلى الميدان للتواصل مع السكان ومحاورتهم، ولم يولوها أي اهتمام، ذلك أنهم فقدوا الثقة فيها وفي ما يدور في فلكها من أحزاب سياسية ونقابات وهيئات ذات صبغة رسمية. غضب الناس على الزيارة الحكومية كان بسبب تجاهلها للجنة الحراك، وتفضيل الوزراء الجلوس في حوار مع المنتخبين المحليين والجمعيات المحلية، وهي الجهات التي لا تحظى بأي صدقية لدى المحتجين، وهو ما اعتبره الناشطون التفافاً على الحراك.
وحين تعمّقت هوة فقد الثقة بين المحتجين والحكومة بات الجميع ينتظر الملك، فقد تعودوا أن يكون هو شخصياً صاحب الحل والعقد في كل نازلة. وإن كان الانتظار مرتبطاً في مخيلة الناس باليد «البيضاء» لـ«ملك الفقراء»، فله في الدستور ما يعززه، إذ إنّ الملك هو الذي يرأس المجلس الوزاري المخوّل وضع الخطط الاستراتيجية للسياسة في البلاد في كل المجالات، بينما يبقى المجلس الحكومي، الأقل سلطة وصلاحيات، والذي يرأسه رئيس الحكومة، أشبه بلقاء للمصادقة. أيضاً لا يمكن تجاهل الصلاحيات الواسعة التي يحظى بها الملك في دستور 2011، والتي تجعله سلطة تنفيذية وتشريعية في الوقت نفسه، سلطة أعلى من الحكومة ومن غرفتي البرلمان المنتخبتين.
ربما على النظام الملكي اليوم أن يُعيد النظر في تدبير سياسة الحكم، وأن ينسحب ما أمكن إلى الخلف كي يفسح المجال للحكومة، فيقوّي صلاحياتها ويعزز دور مؤسساتها، لتكون بذلك صوتاً مسموعاً وقابلاً للمساءلة، لا صوتاً خافتاً في المعادلة السياسية الراهنة، وليكون المغرب بذلك بلداً يستحق الصفات والشعارات التي تتردد باستمرار في خطاباته الرسمية: الشفافية والديموقراطية والحداثة.