توشك أعمال «ترميم» مطعم بيرويا في حلب على نهايتها، ليكون أول منشأة سياحية خاصة «مرمّمة» في المدينة القديمة بعد الحرب. ليس الخبر سعيداً كما يبدو، فالتتمة تقول إنّ ما سُمّي ترميماً هو في الواقع تشويه قائمٌ على مخالفات فادحة، نهضت بدورها على أكتاف مخالفات متتالية تخصّ البناء نفسه منذ عهد ما قبل الحرب. مخالفات اليوم «أُنجزت» أمام أعين المسؤولين عن قطاع الآثار، وبتواطؤ وتسهيل من بعضهم، وغضّ نظر من آخرين.
تاريخ ومخالفات

يقع العقار المذكور في محيط قلعة حلب (يقابلها من جهتها الشمالية)، ويحمل الرقم 3558 – منطقة عقارية سابعة. أنشئ المبنى عام 1910 ليكون مقرّاً لـ«المصرف الزراعي العثماني»، واستمرّ مصرفاً زراعياً في زمن الانتداب الفرنسي (الصورة رقم 1). في حقبة ما بعد الاستقلال، آلت ملكيّة المبنى إلى المصرف الزراعي التعاوني، قبل أن يتحوّل إلى مقهى عُرف أول الأمر باسم «مقهى البلدية»، ثم تبدّل اسمه إلى «مقهى النشّاوي» نسبةً إلى مستثمره. في عهد ذلك المستثمر بدأت التجاوزات، حيث قام بردم حديقة المبنى وبناء عمود بيتونيّ ووضع سقف فوقه لتوسيع الصالة (الصورتان 2 و3). عام 2007، ومع ازدهار أعمال المطاعم السياحية في حلب القديمة، تم بيع حق استثمار المبنى لمستثمر جديد اسمه أكرم شيخ موس، وفي العام نفسه تقدّم الأخير بطلب الموافقة على «ترميم المبنى وتغيير توصيفه من مقهى إلى مطعم وكافتيريا» إلى «لجنة حماية المدينة القديمة» التي يرأسها المحافظ، وتضم في عضويّتها كلّاً من: عضو المكتب التنفيذي المسؤول عن الآثار، مدير الآثار والمتاحف في حلب، رئيس جمعية العاديات، رئيس فرع نقابة المهندسين، مدير الثقافة، عميد كلية الهندسة المعمارية، مدير الأوقاف، مدير السياحة، مدير المدينة القديمة، رئيس شعبة المراقبة في مديرية الآثار، ورئيس دائرة الرخص في مديرية المدينة القديمة (بصفاتهم الاعتبارية لا الشخصيّة). أحالت اللجنة الطلب أصولاً إلى «اللجنة الفنية»، وهي لجنة مصغرة متخصصة منبثقة عنها. درست الأخيرة الطلب وانقسمت الآراء داخلها، حيث أصرّ قسم من أعضائها على أن «سقف الترّاس يجب أن يتكوّن من منشآت غير ثابتة ضماناً لعدم إضافة ملحقات دائمة للمبنى الأثري تؤثر على أصالته»، وعليه تمكن الموافقة فقط على «تسقيف التراس بمظلات متحركة أو سقف معدني غير ثابت». لكن هذا الرأي لم يؤخذ بعين الاعتبار رغم أهميته، وفي نهاية المطاف قررت «لجنة الحماية» الموافقة على «استبدال السقف المعدني بسقف خشبي تقليدي (خشب طبق + خشب مبروم + عدسة بيتونية مسلحة) واستثمار سطحه وتغيير الواجهة الزجاجية». مع تأكيدها على «عدم تسقيف السطح» (الوثيقتان رقم 1، و1 مكرر). عملياً ضرب المستثمر بالقرار عرض الحائط، فقام بإحاطة المبنى بستائر تحجب سير العمل، وتم بناء عمود بيتوني وتحميل جسر بيتوني عليه، ثم سُقف التراس بالبيتون، وتحوّل إلى أمر واقع من دون أن يتدخّل أحد.

«إعادة إعمار» المخالفات!

في خلال الحرب أصيب السقف البيتوني للمقهى وانهار. عام 2017 تقدّم المستثمر الجديد عبدالله عجم بطلب الموافقة على «ترميم المبنى» من «لجنة حماية المدينة القديمة»، وأحيل الطلب أصولاً إلى اللجنة الفنية (كان عدد أعضاء الأخيرة قد اختصر من 12 إلى 6). تجاهلت اللجنة الفنية حقيقة أن السقف المتهدم هو في الأصل عبارة عن مُخالفة، وسارت على خُطى من سبقها، فأقرّت إعادة سقف الترّاس شريطة أن يُنشأ بأخشاب وفوقها عدسة بيتونيّة (الوثيقتان 2، و2 مكرر). وعلى خُطى من سبقه سار المستثمر الجديد بدوره، فقام بصبّ ثلاثة أعمدة بيتونيّة ضخمة (ما أدى إلى تشويه تام لشكل المبنى التاريخي)، ومن فوقها جسر بيتوني مع بروز إضافي (يزيد عن نصف متر) لكي يحقق مساحة أكبر للترّاس (نُفّذت المخالفات علناً هذه المرة ومن دون سواتر تحجبها). وعلاوة على ذلك، تم إنشاء «عمود بيتوني حمّال» فوق نافذة واسعة، ما يُعتبر خطأً هندسياً فادحاً قد يؤدي إلى انهيار العمود وما فوقه مستقبلاً، مع ما يعنيه هذا من تهديد للسلامة العامّة.

«هبوط اضطراري»... مؤقت؟

طوال فترة إنجاز الأعمال لم يتدخل أحد لوضع حدّ للتجاوزات المتتالية، رغم أن الأعمال تتم تحت إشراف مهندسة من «مديرية الآثار والمتاحف في حلب». فجأة حدث ما لم يكن في حسبان المخالفين والمتسترين، بعد أن نُقلت الصورة بطريقة ما إلى المديرية العامة للآثار والمتاحف في دمشق. تدخلت الأخيرة ووجّهت بضرورة وقف الأعمال وتنظيم ضبط أثري أصولاً. لكن مديرية آثار حلب تمهلت في اتخاذ أي إجراء بحجة أنّ «المستثمر بصدد تقديم مخططات تعديل جديدة». أما مديرية المدينة القديمة، فأصدرت بتاريخ 15 حزيران قراراً بإيقاف الرخصة الممنوحة «نظراً للتجاوزات الحاصلة على الترخيص» (وثيقة رقم 3). بتاريخ 19 حزيران اكتفى المستثمر بإزالة البروز البيتوني من السقف، وقرر مواصلة الأعمال بعدما وجّه مدير آثار حلب بالتريّث في موضوع إجراء الضبط الأثري (خلافاً لتوجيهات المديرية العامة).

خرق للقانون السوري والمواثيق الدولية

تُعتبر الأعمال المنجزة حتى الآن مخالفات تستوجب العقوبة وفقاً لقانون الآثار السوري. يوضح المحامي والباحث علاء السيد أن «الفقرة ب من المادة 59 من قانون الآثار تنص على عقوبة بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات وبالغرامة من ألف ليرة إلى عشرة آلاف ليرة لكل من عدّل في بناء عقار أثري دون موافقة السلطات الأثرية أو بنى على موقع أثري مسجل». ويؤكد أنّ «هذه الممارسات تُعتبر أيضاً مخالفة لميثاق فينيسيا الخاص بالترميم، والذي نصت المادة 5 منه على أن استخدام المعلم في وظيفة تفيد المجتمع يجب ألّا يغير في توزيع الفراغات أو شكل المبنى». ويضيف «كما نص الميثاق في موضع آخر على أن أي إضافات تستدعيها الضرورة يجب أن تكون مختلفة عن التكوين العام ولا تقلل من أهمية الأجزاء الأصلية».

اللعب على أصوله

يبدو المطعم المذكور مجرد حلقة في سلسلة. يُمثل مستثمرو المنشآت السياحية كنزاً نظراً لملاءتهم المالية، ولرغبة بعضهم في الالتفاف على قوانين الآثار وتعديل المباني بما يتوافق مع مصالحهم ومن دون اكتراث بطبيعتها التاريخية. وعلمت «الأخبار» أنّ القناة الأساسيّة لتمرير التجاوزات هي مكتب هندسي خاص يملكه المهندس (أ. ح.). يقدم المكتب دراسات الترميم لمستثمري المنشآت لقاء مبالغ كبيرة، ضامناً في الوقت نفسه أن الدراسة ستحظى بالموافقات المطلوبة مهما احتوت من مخالفات، وأن العمل سيسير على «ما يُرام». يتم تقديم الطلبات إلى النافذة الواحدة (تجمع مديرية الآثار ومديرية المدينة القديمة). يرتبط (أ. ح.) بتفاهمات خفيّة مع عدد من المعنيين بملف الترميم مثل المهندس (خ. ع.) والمهندسة (م. أ.) الموظّفين في مديرية الآثار. بعد تحصيل الموافقات اللازمة، يصدر قرار إداري بتعيين المهندسة المذكورة مُشرفةً على التنفيذ. في حالة «بيرويا»، يؤمن المستثمر بأن «القائمين على مديرية آثار حلب وقطاع المدينة القديمة أعطوا كل التسهيلات اللازمة، ولكن التعقيد كله من مديريه آثار دمشق». وقد وُعد أخيراً بتذليل الصعوبات المستجدة، شريطة اتفاقه مع المكتب الهندسي الخاص نفسه على وضع مخططات جديدة بمقابل مادي إضافي!

المضحك المبكي

من بين التفاصيل التي يصح إدراجها تحت خانة «المضحك المبكي» أن المستثمر الجديد حين تقدم بطلب الترميم لم يُرفقه بالمخططات الهندسيّة التي تمت الموافقة عليها في ترميم 2007 بحجة أنها «ضائعة، ويصعب الوصول إليها». وقد تجاهل كل المعنيين بالموافقة على الطلب ضرورة وجود تلك المخططات، رغم بداهة أن نسخاً منها ستكون محفوظة في أرشيف نقابة المهندسين أو مديرية المدينة القديمة أو مديرية الآثار أو أو... (الهدف طبعاً إتاحة المجال للمستثمر وفريقه للاشتغال وفق مزاجهم ومصلحتهم). حصلت «الأخبار» على المخططات المذكورة ببساطة، ويبدو واضحاً أن المخططات لا تلحظ وجود أيّ عمود (انظر الوثائق 4، 5، 6). ذلك ثمة تفصيل آخر يُدرج في الخانة عينها، وهو موافقة «المصرف الزراعي التعاوني» على أعمال الترميم مع حفظ حق المستثمر في المطالبة بالتعويض مستقبلاً، مع ما يعنيه هذا من احتمال استرداد نفقات إعادة إعمار المخالفات من الأموال العامّة! (انظر الوثيقتين 7، 8).