«أنا برتاح الحين». سيرتاح محمد بن نايف حقاً. سيلقي من باله همّ المُلك، وسيتخفّف من مساعيه الدؤوبة لبلوغ العرش. ما من جدال في أنه كان راغباً في حكم السعودية. الفرق الوحيد بينه وبين «منافسه»، محمد بن سلمان، أنه يُؤثِر العمل بصمت، وحفر الصخر بقطرات الماء بدلاً من المعاول. لكن زمن التناحر من خلف الستار والضرب من تحت الحزام ولّى مع رحيل الملك عبد الله. حُسمت المعادلة برضاء أميركي: لا «محمدان» تدور التكهنات بشأنهما بعد اليوم، «محمد واحد» سيرث أباه، ليشكّل مع «محمد ثالث» يحكم أبوظبي وملحقاتها وجه «النظام العربي الجديد».
محاولات متعددة ومتنوعة خاضها نجل ولي العهد الراحل، نايف بن عبد العزيز، لارتقاء سلّم المنصب الأول في المملكة. مع بدايات العهد الجديد، سعى في تصدير نفسه صانعاً للسياسة الخارجية. يمّم وجهه شطر الدول الراعية لـ«الإخوان المسلمين»، محاولاً استقطابها إلى صف السعودية، خدمة لمشروع تشكيل «حلف سني» بمواجهة إيران. تقاطعت، في ذلك الحين، ميول الرجل المتحزّب إلى غلاة المحافظين، مع توجهات الملك سلمان المعروف عنه تعصبه الديني، وتفضيله المتشددين على غيرهم. على خطٍّ موازٍ، حرص وارث أبيه في وزارة الداخلية ذات القبضة الحديدية على توصيل رسائل ترهيبية للمعارضة، تعزّز رصيده داخل المملكة المبنية على جُدر من خوف.
رصيد كان ابن نايف قد اجتهد، خلال السنوات التي سبقت تعيينه ولياً للعهد عقب إطاحة مقرن بن عبد العزيز، في تبييضه لدى الراعي الأميركي. منذ تعيينه مساعداً لوزير الداخلية للشؤون الأمنية، ومن ثم ترقيته في المنصب نفسه إلى مرتبة وزير في 22 أيلول 2004، أجاد متخرج جامعة لويس آند كلارك الأميركية ضبضبة الملفات «القاعدية» التي ارتأت واشنطن والرياض، في مرحلة من المراحل، غسل اليد منها، خصوصاً بعدما بلغت الموسى ذقن المملكة بين عامي 2003 و2006. وهو ما أدى إلى تسويد صفحته لدى تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب»، الذي حاول أحد انتحارييه اغتياله داخل مكتبه في 27 آب 2009.
بعد تعيينه وزيراً للداخلية عام 2012 بأمر من الملك عبد الله، مضى ابن نايف على النهج نفسه، ذاهباً إلى أبعد المديات في إرضاء واشنطن، ولا سيما أن إدارة الرئيس الديموقراطي، باراك أوباما، أبدت، يومذاك، تشدداً حيال علاقة السعودية بالجماعات الجهادية. على هذا النحو، بادر الموصوف بأنه «أكثر توازناً» من ابن عمّه الشاب، في تعزيز عمل «مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية»، الذي أُنشئ عام 2006، بتوجيه منه أيضاً، بهدف «إعادة تأهيل» عناصر التنظيمات المتشددة، و«تهيئتهم للاندماج التدريجي في المجتمع»، و«إبراز دور المملكة في مكافحة الإرهاب، والتصدي للأفكار المنحرفة والضالة».
كانت صورة الرجل المنعوت بالدهاء والحذر في كل خطواته، بوصفه «جنرال الحرب على الإرهاب»، و«المسؤول الذي يقود أكبر حملة لمكافحة الإرهاب في العالم»، وفق توصيف وسائل الإعلام الأميركية، تكبر شيئاً فشيئاً لدى واشنطن، حتى بدأت التقديرات الغربية والعربية ترجّح كفته في وراثة العرش، لكن حسابات الحقل فارقت حسابات البيدر. منذ اللحظة التي أمر فيها سلمان بتعيين نجله، محمد، ولياً لولي العهد، بدا أن الأمور لن تسير لمصلحة «الرجل الجدي» الذي يتمتع بشعبية وازنة في أوساط القبائل. سريعاً، سار «النزاع الخفي» على كرسي الملك في مسالك توطئ، بسرعة، لقصم ابن نايف وإعلاء كلمة ابن سلمان.
بغتة، جاء إعلان العدوان على اليمن، الذي ظهر أشبه ما يكون بمطية يعتليها نجل الملك لتعويم نفسه في العواصم الأجنبية كـ«قائد حكيم»، فيما آثر ابن نايف النأي بنفسه عن الحرب، قراراً ومجريات ونتائج، حتى أنه لم يتمنع عن إبداء استيائه ممّا كان حاصلاً، بمغادرة البلاد ستة أسابيع كاملة، قضاها في الجزائر في كانون الأول 2015. أعقب ذلك بأشهر إعلان «رؤية 2030»، التي أرادها ابن سلمان رافعة لسمعته في الأوساط الغربية، بوصفها رؤية حداثية ستدخل المملكة في عصر الإصلاحات الجذرية، و«ستفطمها» عن النفط. مرة أخرى، بدا ابن نايف مستبعداً من المشهد، ومعزولاً من السيرورة التي كانت تتبلور، رويداً رويداً، لتشكيل صورة الحكم الجديد.
مضت الأيام وجاءت قرارات 22 نيسان 2017، التي وجهت ضربة إضافية إلى العضو السابق في المجلس الأعلى للإعلام. أصدر سلمان، يومها، سلسلة أوامر فاق عددها الأربعين، تضمنت استحداث مجلس باسم «الأمن الوطني»، مرتبط مباشرة بالديوان الملكي، في إقصاء غير مباشر لـ«مجلس الشؤون الأمنية والسياسية» الذي يرأسه ابن نايف، فضلاً عن تعيين حفيد الملك سلمان، أحمد بن فهد بن سلمان، نائباً لأمير المنطقة الشرقية، خلفاً لسعود بن نايف بن عبد العزيز، النجل الأكبر لنايف. مرة ثالثة، التزم المتأثر بأبيه حد التماهي الصمت، مفضّلاً استيعاب الركلات، بهدوء، أملاً بـ«تصفية حسابات» في المستقبل. لكن سرعان ما عاجله خصمه، قبل أيام قليلة، بالضربة ما قبل الأخيرة، ملغياً هيئة التحقيق العامة التابعة لوزارة الداخلية، مستبدلاً بها جهازَ النيابة العامة التابع للملك مباشرة، وذلك بعدما أزاح من الطريق عضو «مجلس الشؤون الأمنية والسياسية»، وزير الدولة، سعد الجبري، الذي كان يمثل الذراع اليمنى لابن نايف.
خلال ذلك كله، حاول محمد بن نايف، المولود في 30 آب 1959، الرد على مساعي عزله بخطوات دفاعية راوحت، في معظم الأحيان، في الحقل الإعلامي. فعلى مستوى الداخل، دأب الرجل على «تلميع إنجازاته» بوصفه وزيراً للداخلية، متباهياً بعمليات «ضبط الإرهابيين»، وقمع المعارضين، وإنجاح موسم الحج. كذلك عمد إلى تفعيل ما يسميه العارفون بالشأن السعودي «جيشاً إلكترونياً»، يتولى تسويق أعمال بن نايف، وتكوين هالة حول شخصه، والرد على من ينتقص منه. وعلى مستوى الخارج، يُحكى عن تعاقد النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء (سابقاً) مع شركات علاقات عامة أميركية، خصوصاً بعد وصول دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأميركية، للترويج لنفسه باعتباره «الرجل الأكثر أهلية» لوراثة سلمان.
على أن اللوبيات المدارة من قبل محمد بن سلمان ومحمد بن زايد كانت أقوى من أي منافس لهما. نجح الشابان في إقناع ساكن البيت الأبيض الجديد بأفضلية ولي ولي العهد السعودي (سابقاً) بين كل المصطفين في «طابور الإخوة» المتنافسين. وشكل اللقاء الأول الذي جمع ترامب بابن سلمان في واشنطن إشارة مبكرة إلى اقتناع واشنطن بـ«رجاحة» انتقاء وزير الدفاع (سابقاً)، والاعتماد عليه في المرحلة المقبلة. اليوم، يجد محمد بن نايف نفسه صفر اليدين، منضماً إلى جمع من الأمراء الغاضبين، الذين سيسكن السخط على سلمان ونجله عقولهم وقلوبهم في قادم الأيام، ولن يبرح منها، إلا إذا قررت واشنطن نفض يدها من بيت الأشقاء الأعداء، والسماح للحقد بالاندلاق على حقيقته.