أذكر أنني لم أغمض عينيّ على الأقل لساعة قبل النوم حينما علمت أن جدي سيذهب صباح الغد إلى الكورة، شمال لبنان، ليحضر صفائح زيت الزيتون. كنت في العاشرة من عمري وقتها، ولم أكن قد زرت الكورة من قبل، بل سمعت عنها في حصة من حصص الجغرافيا في مدرسة طولكرم الابتدائية التابعة للأونروا. أخبرنا أستاذ المادة عن محاصيل لبنان وبماذا تشتهر كل منطقة.
انهالت على مخيلتي صفحات من الكتاب مع صور البساتين والأشجار وحبات الزيتون المقطوف والنصوص التي حفظناها عن ظهر قلب حتى بتنا نعتقد أن هذه المناطق موجودة فقط في الكتب، لأننا لم نرها في حياتنا. كما حصل معي ذات مرة حين شاهدت مصافي البترول في بحر الجية وابتسمت لأنني كذلك كنت أعتبر أن كل ما نتعلمه موجود فقط في الكتب وحدود الدنيا هي أطراف مخيم برج البراجنة!
تذكرت جدتي، في الليالي النادرة التي كانت تستقبلني لأنام بجانبها، وهي تقص عليّ حكاياتها وجدي مع الحاكورة في قرية كويكات. كيف كان حيدر يهرول منذ الفجر إلى الأرض، راخياً حطته البيضاء على كتفيه، وكيف كان يجمع الزيتون في سلال القش ويحملها على الحمار ليبيعها في المدينة. وكيف كان يحضر لها الزيتون ويعملان في غسله ورصّه، بواسطة حجر بحجم كف اليد ومن ثم كبسه في مرطبانات زجاجية كبيرة، يملآنها بالماء والملح وقطع الحامض. كنت أراقبها وهي تحدثني عن تلك الأيام، وأستغرب جداً أنها كانت تعاون جدي في العمل، لأننا منذ أن وعينا على الدنيا في دار سيدي ونحن نراهما كطرفي المغناطيس المتنافرين. وخطر ببالي أيضاً احتمال أنها تكذب عليّ بموضوع معاونتها لجدي، لكنها كانت تروي تفاصيل كثيرة، ما يعني أنها بالفعل كانت تفعل ذلك في السابق.
وعلمت من أمي أن أبي هو من سيوصل جدي إلى الشمال - ما يعني أنني لن أذهب معه! فأبي كان صارماً لدرجة أننا كنا نومئ إيجاباً برؤوسنا على ما يصدره من قوانين وأوامر دون التفوه بكلمة، حتى ولو لم ترضنا قراراته. وكالعادة، كان الجواب: "لاء يابا، المشوار طويل ويمكن تستفرغي بالسيارة، رايح أنا وجدك نشتغل". لم أتضايق كثيراً هذه المرة لأنني تنبهت أن مفتاح الحل هو جدتي سودة. سودة هي ملك هذا الدار (لربما القاسي والظالم أحياناً... أحياناً كثيرة، لكنها تبقى الملك الآمر والناهي). ترجيتها و"تبكبكت" أمامها حتى تقنع أبي باصطحابي معه وجدي إلى الكورة. وفعلاً، حصل ذلك. ألم أقل إنها ملك الدار؟!
أعطتني أمي كيساً فارغاً في حال إحساسي بأنني سأتقيأ، حتى لا يغضب مني والدي ويبدأ محاضرته عن أن معه حق وكان يجب أن لا أرافقهما. أخرجت الكيس في طريقنا ووضعته على حضني، وحين شعرت بالغثيان، أمسكت الكيس لأتقيأ، ولكني عنيدة مثل أبي، قررت أن أتغلب على شعوري بالغثيان، ولأنني لا أريد لأبي أن يكون هو على حق، وضعت علكة في فمي، علّ طعمها يلهيني ونجحت!
وصلنا إلى الكورة. نزلنا من السيارة ومشينا بضع خطوات حتى وصلنا إلى بيت جورجيت، صديقة جدي، حيث رأيت أكواماً من الزيتون الأخضر في دارها على شكل تلال تعلو أكثر من قامتي! رحبت بنا "الست" جورجيت، اللطيفة جداً، والتي أعدت الشاي لجدي وأبي وأخبرتني أنها صائمة وهي تعطيني الحلوى.
تذكرت أختي وكلامها عن أن جدتي مسيحية، بعدما زارتها صديقتها آنجيل منذ فترة. أخذت عيناي تتنقل من حائط لحائط أراقب اللوحات المعلقة على الجدران لأنقل لأختي ما رأيته، علّنا نتوصل لمعرفة ما إذا كانت جدتي مسيحية في الخفاء كما صديقتها آنجيل!
في ذلك الوقت كان أبي ينقل صفائح الزيت إلى السيارة، وجدي يعدّ المال ليتأكد من المبلغ المتفق عليه، وإذا بجورجيت تدخل إلى غرفة الجلوس وبيدها كاسة ماء تشرب منها. اعتقدت أنها نسيت أنها صائمة كما يحدث معنا أحياناً، فركضت لأذكرها "ما تشربي مش انتي صايمة؟"، فضحكت هي وجدي وأخبرتني أنهم يصومون عن "أي شيء حيواني"، لكن بإمكانهم أكل الخضار وشرب الماء.
هذه معلومة أخرى أدونها في عقلي حتى أصل إلى البيت وأخبر أختي، أعتقد أننا سنراقب ماذا تأكل جدتي لنعرف ما إذا كانت مثل آنجيل أو لا!