تمثّل شخصية مسعود البرزاني استثناءً في المشهد الإقليمي، وخاصة بعدما منحته «الحرب ضد داعش»، إثر سقوط الموصل في بداية صيف 2014، فرصة تأمين توسّع جغرافي لقوات «البشمركة» خارج الحدود المتعارف عليها لإقليم كردستان في شمال العراق، وتأمين حضور سياسي فاعل ضمن المشهد الرسمي، إلى درجة أنه بات يُعامل من قبل بعض الأطراف الإقليمية النافذة كرئيس دولة.
وفي المرحلة الحالية، يتطلع البرزاني إلى تكريس نفسه زعيماً أول لـ«القضية الكردية» في العراق (وفي سوريا كما يطمح)، ليتوِّج بذلك مساراً طويلاً، بدأ في نهاية الثمانينيات إثر مقتل شقيقه إدريس، ووراثة زعامة والده الملا مصطفى.
وبغية تركيز دعائم «الزعامة الكردية»، يواصل مسعود في داخل إقليم كردستان مساعيه لإحكام الطوق على المشهد السياسي، إلى درجة أنّ آليات حكمه تُشبَّه من قبل معارضيه بآليات حكم «ملوك الخليج»، فيما نجح من جهة أخرى في ترويج صورة له عبر الإعلام الغربي، تصفه بأنّه يقف على رأس قوات «البشمركة» عند الصفوف الأمامية للجبهات المفتوحة ضد تنظيم «داعش» (ساهم في إنتاج تلك الصورة المفكر الفرنسي «المتصهين» برنار هنري ليفي).
وفي إطار الهدف نفسه، ومع اقتراب مرحلة انتهاء العمليات العسكرية في مدينة الموصل، حسم البرزاني مسألة الدعوة إلى استفتاء على استقلال «إقليم كردستان والمناطق الكردستانية خارج إدارة الإقليم»، وأعلنت رئاسة الإقليم في السابع من الشهر الجاري أنّ الاستحقاق سيكون في 25 أيلول المقبل. وهو سيكون الاستفتاء الثاني بعد ذلك الذي نُظِّم عام 2005، بفارق أنّ الحالي رسمي ويأتي ضمن سياقات إقليمية محفّزة في عدد من عواملها على إعادة إنتاج حدود الشرق الأوسط.

تنفيذ «التهديد»

في القراءة السياسية، فإنّ البرزاني نفذ ما كان يهدد به بغداد، وبالأخص منذ خروج الاحتلال الأميركي في 2011، وما تبع ذلك من أزمات سياسية بين أربيل وحكومة نوري المالكي الذي كان يعتمد سياسة مركزية صلبة، تعطي بغداد دوراً وازناً في رسم أطر سياسات البلاد بمحافظاتها المترامية (سياسياً بالأخص)، وهو ما ساهم في توصيفه من قبل معارضيه ومناوئيه بأنّه «صدام صغير».
لكن كان لافتاً أنّ حكومة حيدر العبادي واجهت الإعلان عن الاستفتاء بكثير من المرونة، ما عكس توجهاً لديها بعدم منح البرزاني أسباباً تمكّنه من إشعال «معركة إعلامية». وبينما تعرف بغداد أنّ نجاح الاستفتاء لا يعني الانفصال مباشرة، فإنّ هناك قراءة سياسية في العاصمة العراقية تعتبر أنّ «ملف استقلال الإقليم يستخدمه البرزاني في الدعاية لأنه يعلم أنّ الظروف الموضوعية لن تسمح بالاستقلال الآن، إذ لديه إشارات واضحة من الولايات المتحدة والغرب في هذا الاتجاه، فضلاً عن موقفي تركيا وإيران، وهذا ما يجعل العبادي يتجاهل الموضوع لأنه يراه مستهلكاً».
إلا أنّ ما قد تغفل عنه هذه القراءة، هو السياقات التي جاء فيها الإعلان: «يُطرح كثير من الأسئلة بشأن التوقيت... وخاصة أن السياسة الإقليمية تتسارع منذ زيارة ترامب (في 20 أيار الماضي) للسعودية»، يقول الصحافي والباحث عبدالله هاوز، والذي يضيف أنّ اختيار هذا التوقيت مرتبط «بتراجع مستوى تهديد داعش للعراق وللأكراد الذين سيطروا خلال معاركهم ضد هذا التنظيم على أراض يعتبرونها لهم، تشمل كركوك، سنجار وخانقين، ما يجعل هذا التوقيت الأمثل بالنسبة إلى حكومة الإقليم». في غضون ذلك، يُبرز اعتبار هاوز أنّ «إدارة ترامب، والدول الخليجية، وإسرائيل، قد لا يعارضون الاستقلال»، تناقضاً مع قراءة بغداد المشار إليها، والتي تستند إلى «رفض إقليمي ودولي»، (علماً بأنّ إسرائيل تؤيد الاستقلال، تماماً كان موقفها بخصوص انفصال جنوب السودان، فيما هناك قراءات تعتبر أنّ السعودية قد توافق، وخاصة أنها لم تعلّق على الدعوة إلى الاستفتاء).
من جهة أخرى، تُدعِّم «القراءة البغدادية» حججها بأنّ البرزاني، الذي انتهت ولايته على رأس الإقليم عام 2015، استفاد من «الانشقاقات داخل المشهد السياسي الكردي، ومن انقلابه على الشرعية في الإقليم، وطرد رئيس البرلمان ووزراء كتلة تغيير (غوران) المعارضة، ومنعهم من دخول أربيل»، لإقرار الدعوة إلى الاستفتاء. إضافة إلى ذلك، فإنه استفاد من ترهّل خصمه الأبرز «الاتحاد الوطني الكردستاني» وانكفاء زعيمه التاريخي جلال طالباني، ليهيمن على «القرار الكردي».
ويبدو أنّ هذه القراءة تُعوِّل أيضاً على «وجود معارضة متنامية للاستفتاء، من قبل حركة تغيير (غوران) وعدد من الأطراف الإسلامية... لأنهم يعتقدون أنّ توقيت الاستفتاء وواقع أنه قد أعلن من قبل مسعود البرزاني، يهدف إلى استخدامه سياسياً لمآرب شخصية»، يشرح عبدالله هاوز.

كما الوالد... كذلك الابن

قبل يومين، أجاب البرزاني محاوره في مقابلة أجراها مع مجلة «فورين بوليسي» الأميركية، على سؤال بشأن «أهمية استقلال كردستان (الاستفتاء) بالنسبة إلى إرثه السياسي»، قائلاً: «ولدت لاستقلال كردستان... (ولدت عام 1946) في ظلال علم جمهورية مهاباد، وأريد أن أموت تحت علم دولة كردستان المستقلة».
قد يدخل هذا التصريح في سياق التحشيد الإعلامي للاستفتاء المقبل. لكنّ البرزاني من خلال هذا الحديث، يطرح فكرة تؤرّخ لمسيرة الأكراد منذ جمهورية مهاباد التي دامت نحو عام واحد في غرب إيران، والتي كان والده مشاركاً في تأسيسها عام 1946 حين انتقل من برزان في العراق إلى غرب إيران، بصورة اختزالية. هو يحاول في بعض إجاباته ضمن المقابلة نفسها، إقناع الأكراد بأنّ هناك تاريخين كرديين أساسيين (ولادة الجمهورية الأولى في مهاباد، والتوجه نحو إعلان الدولة الكردية راهناً)، وأنّ هذين التاريخين يندرجان ضمن مسيرة آل البرزاني السياسية.

منذ الستينيات، بدأ آل
البرزاني الاتصال بكل القوى المعادية لبغداد


في الواقع، إذا كان لا أحد يُنكر على مصطفى البرزاني أنه كان شخصية كردية مركزية في القرن الماضي، فإنّ مسيرته أوصلت عملياً القوى العراقية الكردية في نهاية السبعينيات إلى طريق مسدود.
وفي استعادة للأحداث، بعد سقوط جمهورية مهاباد، لجأ الملا مصطفى إلى الاتحاد السوفياتي، حيث من المفترض أنه قضى 12 عاماً، قبل أن يعود إلى العراق عقب سقوط الملكية (1958). «ثورة أيلول» التي أطلقها عام 1961، كان الاتحاد السوفياتي يدعمها بهدف إقلاق حلفاء الأميركيين (تركيا وإيران) والتأثير على حكومة بغداد.
عقد الستينيات، سوف يشهد تشابك علاقات الملا مصطفى بالقوى الإقليمية، أبرزها جهاز «الموساد» الإسرائيلي ونظام الشاه في إيران، وهذان الطرفان سيفتحان أمامه الباب لتركيز علاقة متينة مع الولايات المتحدة، وبالأخص مع الـ«سي آي ايه». وتلك المرحلة، يشرحها الصحافي والدبلوماسي الفرنسي الراحل اريك رولو، في أحد حواراته المتلفزة، بالقول: «إنّ سياسة الأكراد كانت (تقوم) دائماً على الاتصال بكل القوى المعادية لبغداد... لكن مع الأسف خسروا في كل المجالات».
عقد السبعينيات الذي سوف ينتهي بوفاة الملا مصطفى البرزاني في منفاه الأميركي، سيعرف خلاله الأكراد انسداد أفقهم السياسي، وخاصة بعد توصل بغداد وشاه إيران إلى «اتفاق الجزائر» عام 1975. في ذلك العام، وبعدما تُرك مصطفى البرزاني وحده، كتب إلى وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر، قائلاً: «إنّ حركتنا وشعبنا يُدمرون بطريقة لا تُصدّق، في ظل صمت الجميع. نشعر بأنّه تقع على الولايات المتحدة مسؤولية أخلاقية وسياسية تجاه شعبنا الذي ألزم نفسه تجاه سياسة بلادك».
سياسة الاتصال «بكل القوى المعادية لبغداد» التي تحدث عنها رولو، سوف يتقنها البرزاني الابن، وخاصة بعد حرب الخليج عام 1991 وبدء حصار الدولة العراقية. فمع تركيا مثلاً، ستتطور علاقاته من قريب إلى أنقرة، إلى حليف وصديق لرجب طيب أردوغان، وصولاً لأن يكون «تاجراً بنفط كردستان» مع صهر الرئيس التركي وزير الطاقة بيرات البيرق. الأمر نفسه مع إسرائيل التي سوف يرسّخ العلاقة لأنه يرى فيها «أفضل لوبي في الغرب» لقضيته، والتي سيبيعها من نفط العراق (كما أكدت وكالة رويترز في عدد من تقاريرها).
لا شك أنّ الظروف السياسية ساهمت في أن يتبع آل البرزاني هكذا سياسات. وربما هي الظروف التي تجعله راهناً محافظاً على علاقة جيدة بإيران (قيل إنّ قاسم سليماني زاره في شهر نيسان الماضي إثر رفع علم كردستان في مدينة كركوك المتنازع عليها مع بغداد). لكن أياً كان السبب، فإنّ مسعود البرزاني قد يرقى لأن يجسّد الصورة الأوضح عما يسمى «الأدوات السياسية».
رئيس وزراء روسيا الراحل يفغيني بريماكوف، يقول في كتابه «روسيا والعرب» إنّه في المرحلة التي تبعت الغزو الأميركي في 2003، والتي أسست لتوجه كردي شديد نحو الانفصال عن بغداد، فإنّ واشنطن اختارت الإبقاء على كردستان كجزء من الدولة العراقية، آملة الاعتماد على القوى الكردية للحفاظ على مصالحها. وهذا أمر واضح في سياسات البرزاني. (للإشارة، إنّ أهمية الاستناد إلى رأي بريماكوف، هي أنه هو الذي كان موفداً سوفياتياً إلى مصطفى البرزاني في مرحلة الستينيات، حين كان يعمل مراسلاً في الشرق الأوسط لصحيفة «برافدا»).

«رياح» مسعود

بين مسيرتَي مصطفى وابنه، هناك فارق واضح يقوم على أنّ مسعود نجح في ربط أربيل (عاصمة الإقليم) بالعالم، سياسياً واقتصادياً (لطالما قيل مثلاً إنّه يطمح لأن تكون هذه المدينة «دبي جديدة»، برغم الفوارق الطبيعية بينهما). ثمة أمر إضافي، لا بد من الإشارة إليه، وهو أنّ مسعود البرزاني حوّل القضية الكردية إلى قضية انفصالية في العراق، مستفيداً من كل ما تبع حرب الخليج 1991، ومن غزو العراق الذي أسس لنظام طائفي ساعده في تكريس توجهه الانفصالي.
ومنذ صيف 2014 وبدء تمدد «داعش»، كان البرزاني أكثر سياسي يشدد على وجوب «إعادة النظر في حدود سايكس بيكو»، وقد مكنته «الحرب ضد داعش» من التمدد حتى الحدود السورية، فيما استغلته واستثمرت فيه كل من أنقرة وواشنطن خلف تلك الحدود الغربية.
وبعد نحو ثلاثة أعوام من انطلاق «الحرب ضد داعش»، يطرح البرزاني «الاستفتاء»، مستفيداً من المشهد السياسي المتفكك داخل إقليم كردستان ومن هيمنته عليه، ويتوجه في المقابلة مع «فورين بوليسي» إلى العالم، قائلاً: «نفضل الموت جوعاً، على الحياة تحت القمع والاحتلال». في هذه الجملة، قد يبدو البرزاني مثل ذلك «الكردي» الذي قال محمود درويش يوماً، إنّه «ليس (له) إلا الريح، تسكنه ويسكنها». لكن مسيرة هذا الرجل المتواصلة منذ أيام والده، تحتّم الترقب حتى النهاية، لمعرفة أين ستحطُّ به تلك الريح، بعدما كان ووالده حليفين «لكل الأعداء» المتصارعين في ما بينهم.... وكانا خصمين للأقربين، من بغداد حتى السليمانية وجبل قنديل، حيث يصمد مقاتلو «حزب العمال الكردستاني» ضد تحالف مسعود ــ أردوغان.




«الرؤساء الثلاثة»

في أيار 2015، وعلى هامش المنتدى الاقتصادي العالمي في الأردن، أثارت الاهتمام صورة للبرزاني كان يصافح فيها الرئيس الإسرائيلي السابق شيمون بيريز، فيما كان محمود عباس يتوسطهما. اللافت في الصورة عملياً، هو صدفة اجتماع الثلاثة والتقاط الصورة لهم، كما لو أنّنا كنا أمام مشهد لرئيسَي «دولتي فلسطين وإسرائيل» (وفق حل الدولتين الذي كان جون كيري، يسعى جاهداً في حينه للتوصل إليه)، إلى جانب «رئيس الدولة الكردية».
ومعروف أنّ بيريز كان صديقاً للبرزاني، وقد قال عقب لقائه باراك أوباما بعد أيام على سقوط الموصل في حزيران 2014 إنه أبلغه أنه لا يرى أنّ توحيد العراق ممكن، مضيفاً أنّ «الأكراد أقاموا دولتهم من الناحية الفعلية، وهي ديموقراطية». وقبل يوم واحد من ذلك التصريح، قال وزير الخارجية الإسرائيلي في حينه أفيغدور ليبرمان، لنظيره كيري: «العراق يتفكك أمام أعيننا، وسيتضح أن إقامة دولة كردية مستقلة أمر مفروغ منه». وبعد أيام قليلة، دعم بنيامين نتنياهو إقامة «دولة كردية»، وذلك في سياق حديثه عن «تطورات تاريخية (نشهدها) في منطقتنا تترتب عليها تبعات مركزية لأمن إسرائيل، والعالم، واتفاقية سايكس بيكو»، ما وُضع في الإعلام الإسرائيلي في سياق «الاهتمام» بقيام كيانات متنازعة في العراق وسوريا.