ثمة في مصر من لا يريد قراءة التاريخ واستخلاص دروسه... أو ربما يُمعن جيّداً في قراءته ويصرّ على تكراره!في الواقع، لا يمكن وضع سياسات الرئيس عبد الفتاح السيسي إلا في سياق أحد هذين الاحتمالين.

يتجاهل «المشير» تجارب مئتي عام، على الأقل، حفل بها تاريخ مصر الحديث، حتى ليخال لك أنه يهوى الانزلاق إلى الحفر ذاتها التي سقط فيها أسلافه، من «عهد الخديوي»... إلى «حكم المرشد».
لعلّها الخبرة السياسية المفقودة لرئيس آت من خلفية عسكرية هي التي تجعله راغباً في تسيير شؤون البلاد والعباد وفق «كاتالوغات» أسلافه، بكل تناقضاتها، مجتمعة.
ليس التقليد عيباً، بطبيعة الحال، فالحكم استمرارية، وما هو إلا تراكم لخبرات سابقة... ولكن ذلك التقليد قد ينقلب كارثة، إذا ما جرى في سياقه تجاهل تداعيات خطيرة ترتّبت على الخيارات السابقة لهذا الحاكم أو ذاك.
يوم ارتدى «المشير» بزته العسكرية المزدانة بالأوسمة والنياشين، واعتلى يخت «المحروسة» الملكي، في افتتاح «قناة السويس الجديدة»، بدا أشبه بالخديوي إسماعيل وهو يفتتح المشروع التاريخي الذي رسم مستقبل مصر منذ القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا: هدر الخديوي أموال الخزينة على مظاهر البذخ، وهو ما قام به السيسي، بحيثية مختلفة هذه المرّة، وهي الرغبة في تنفيذ أوامره بإتمام المشروع خلال عام واحد؛ استوحى فكرة القاهرة الخديوية في مشروع سُمّي العاصمة الجديدة... ثم سار على خطى الخديوي نفسه في جعل مصر رهينة رأس المال الخارجي بنسخته الحديثة، والأكثر توحشاً، أي صندوق النقد الدولي.
ويوم أمعن السيسي في تضييق المجال العام أمام القوى السياسية – حتى تلك المنضوية في سياق ما كان يعرف بـ«ائتلاف 30 يونيو» – بدا كأنه يغرف من «كاتالوغ» الرئيس جمال عبد الناصر الذي سارع، بعد «ثورة 23 يوليو»، إلى اتخاذ قرارات ذات تأثير مشابه، ليس أقلّها حل الأحزاب وفرض الاحكام العرفية، وحصر القرار السياسي بـ«الحزب الواحد»، ما شكّل اللبنة الأولى في عملية بناء «دولة المخابرات»، التي أعلن «الزعيم» نفسه سقوطها بعد هزيمة عام 1967.
ويوم انتشى السيسي بفوز دونالد ترامب، بدا كأن صدى العبارة الشهيرة لأنور السادات، وهي أن «99 في المئة من أوراق اللعبة في يد أمريكا»، قد راح يتردد مجدداً في أروقة قصر الاتحادية... وبقية الحكاية معروفة!
ويوم اختار السيسي أن يصير لمصر برلمان، وظيفته الوحيدة أن يكون «واجهة» لتمرير القرارات، كان بذلك يقتدي ببرلمانات حسني مبارك، ولكن هذه المرّة، وبرئيس يتجاوز أحمد فتحي سرور بأشواط في استخفافه بمبادئ الدستور!
وليس آخراً... حين جعل السيسي مصر تسير خلف القرار السعودي، لم يختلف بذلك عن سلفه محمد مرسي، حين جعل قطر وصيّة على شؤون «الأهل والعشيرة».
كل ما سبق يتكثف اليوم في ملف واحد هو تيران وصنافير.
اتخذ السيسي قرار التنازل عن الجزيرتين للسعودية، وجنّد لتمرير الصفقة كل أجهزة الدولة، من الداخلية إلى الخارجية والإعلام... ومستخدماً كل «كاتالوغات» العهود السابقة.
«كاتالوغ» الخديوي إسماعيل سيجرّ على مصر ــ وقناة السويس تحديداً ــ كارثة حتمية، لن تستفيد منه سوى إسرائيل، بمشاريعها المعنلة والمبيّتة، وهو تحذير لم يعد مقتصراً على معارضين مثل خالد علي، بل صار محطّ حديث شخص من النظام القديم، مثل أحمد شفيق.
و«كاتالوغ» جمال عبد الناصر في شقّه المتعلق بتضييق المجال العام، وخنق الصوت المعارض، سيجعل اتفاقية تيران وصنافير مفتقدة للشرعية الشعبية... وستتحول «دولة المخابرات» التي مَنعت بالأمس مجرّد تجمّع شعبي صغير «دفاعاً عن الأرض»، مقدّمة لهزيمة ثانية.
و«كاتالوغ» أنور السادات القائم على التفريط بالسيادة خدمة لمشاريع الخارج سيحوّل الأرض المصرية محوراً لمخططات إقليمية، عنوانها العريض «كامب ديفيد 2».
و«كاتالوغ» حسني مبارك/ فتحي سرور لن يؤدي في النهاية سوى إلى تصادم بين السلطات الدستورية من المؤكد أن مصر في غنى عنه.
... وأما «كاتالوغ» محمد مرسي فسيكرّس انتقال مصر من الوصاية القطرية إلى الوصاية السعودية، وحينها لن يعجب أحد إن تكرر معها سيناريو «العزلة القطرية»، في حال قررت في يوم من الأيام أن تتحرر من قيد «طويل العمر»... أو ربما خليفته الجاري إعداده للمُلك.