في الأسابيع الماضية، وتزامناً مع تفشّي وباء الكوليرا في اليمن حاصداً ما يزيد على 700 ضحية، اخترقت الخسائر الكبيرة التي مُني بها العدوان السعودي، خاصة صور القتلى في صفوف القوات السودانية، التعتيم الإعلامي على جرائم وهزائم «تحالف إعادة الشرعية»، فارتفعت في الخرطوم الأصوات المنددة التي اتهمت الرئيس عمر البشير بـ«المتاجرة بدماء شعبه في سوق النخاسة العربية».
لا أرقام رسمية لعدد القوات السودانية التي وصلت (أو ستصل) إلى اليمن، أو لأولئك الذين سقطوا منهم في المعارك؛ فمنذ إعلان البشير في آذار 2015 مشاركة بلاده في العدوان، تحاول السلطات السودانية جاهدة إخفاء أيّ معلومات تتعلق بالقوات البرية التي لا تزال حتى اليوم تصل عبر البحر الأحمر، بالخفاء والعلن.
يؤكد مصدر عسكري يمني رفيع المستوى أن عدد القوات السودانية التي وصلت إلى اليمن منذ بدء العدوان «يبلغ حوالى 8220، قتل منهم 177 على الأقل». ويشير، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أن هذه القوات تنشط في محافظة عدن، حيث تتوزع بين منطقة المعاشيق ومطار عدن الدولي ومنطقة صلاح الدين، وفي الساحل الغربي الممتد من ميدي شمالاً حتى باب المندب جنوباً، مشدّداً على أن دورها هو «الاشتباك المباشر وليس الدعم فقط».

قدّم السودان جنوده
فيما لم تفعل ذلك مصر وباكستان ودول أخرى

بدا ذلك جلياً في الأيام الماضية، إذ كشفت تطورات جبهة ميدي، الواقعة شمال غرب محافظة حجة، تخبّط قوى «التحالف» وسوء التنسيق في ما بينها من جهة، كذلك أزاحت الستار عن الدور الفعلي للسودان وحجم المشاركة في العمليات العسكرية من جهة أخرى. وليست «مصيدة ميدي الكبرى» (راجع العدد ٣١٩٣ في ٦ حزيران) سوى جبهة من ضمن عشرات الجبهات التي شهدت سقوط جنود سودانيين كانوا يقاتلون أبناء اليمن «الحفاة» وجهاً لوجه على الخطوط الأمامية وفي مواقع هجومية.
على سبيل المثال، في 11 نيسان الماضي، وبالتزامن مع استهداف «القوّة الصاروخية» تجمّعات للقوات الموالية للرئيس اليمني المستقيل عبد ربه منصور هادي، في مدينة المخا في تعز، وإعلانها مقتل وإصابة «عدد كبير من الضباط والجنود السودانيين»، أعلنت الخرطوم مقتل خمسة من أفرادها، وإصابة 22 آخرين، في ما سمّته «عمليات تعرضية». وفي محاولة لاحتواء سخط الشارع، خرجت السلطات بإعلان غير واضح ولا قيمة له، ادّعت فيه «إكمال القوات السودانية المهام الموكلة إليها في المرحلة الأولى بنجاح وبدء الاستعدادات للمرحلة الثانية».
على خط مواٍز، شهدت الأشهر الماضية تزايداً لدور القوات السودانية في العمليات القتالية، ما حوّل الخرطوم من لاعب ثانوي إلى خزّان للوحدات البرية ورأس حربتها. ويشبّه ناشط ومعارض سياسي سوداني مقيم في أبو ظبي هذا التطوّر العسكري «الخطير»، الذي حدث «بين ليلة وضحاها»، بالاستدارة السياسية الإقليمية التي فعلها البشير «بين اجتماع وضحاه» عام 2015، وتلك «الاستدارة» كانت أولى ثمارها قرار المشاركة في قصف اليمن وحصاره.
بالعودة إلى الوراء قليلاً، وتحديداً عام 2012، وصل الرئيس السوداني إلى السعودية على رأس وفد واضح من تركيبته (ضمّ محافظ بنك السودان وعدداً من وزراء الحقائب التي تعنى بالشق الاقتصادي) أنه في زيارة هدفها التسوّل والاستجداء.
ورغم تحذير وزير الخارجية السوداني في ذلك الوقت، علي كرتي، خلال زيارة العاصمة الفرنسية باريس (أواخر 2011) من أنّ اقتصاد بلاده «على حافة الانهيار»، رفضت الرياض تقديم أيّ مساعدة إلى «حليف طهران»، أو حتى ترتيب أي لقاء مع المسؤولين السودانيين (كما يتضح من الرسالة التي أرسلها مستشار الرئيس السوداني مصطفى عثمان إسماعيل إلى وزير الخارجية السعودي آنذاك سعود الفيصل، في 10 نيسان 2012، التي نشرها موقع «ويكيليكس» في 2015).
«سبب الفتور بين البشير والملك عبدالله آنذاك لم يكن واضحاً»، يقول صحافي سوداني لـ«الأخبار»، قبل أن يضيف: «لكن أحد الإعلاميين السعوديين المعروفين قال لي إن الملك السعودي كان غاضباً من قرار البشير توكيل قطر مهمة إيقاف الحرب في دارفور بدلاً من الرياض... وبالطبع، من التقارب الإيراني ــ السوداني».
من يتابع تصريحات المسؤولين السعوديين وتحركاتهم في تلك المدة يلاحظ أن هذه العلاقة (مع طهران) استفزّت الرياض التي رفضت في أيلول 2013 السماح لطائرة البشير بعبور مجالها الجوي أثناء توجهه إلى حضور حفل تنصيب الرئيس حسن روحاني في طهران، ما اضطره إلى العودة إلى الخرطوم.
جاء هذا الإجراء غير المسبوق، الذي وصفته الصحف السودانية بـ«المذل والمهين»، قبل شهرين من إبرام اتّفاق تمهيدي لحلّ أزمة الملفّ النووي الإيراني في تشرين الثاني 2013، رغم معارضة المملكة وتحذيرها المتكرر من تداعيات مثل هذه الخطوة على موازين القوى في المنطقة. ورأت السعودية في الاتفاق التمهيدي وثيقة اعتراف دولية تكرّس حق طهران في تخصيب اليورانيوم وتفتح لها الباب للعودة إلى المسرح الدولي كدولة نووية، الأمر الذي مثّل وفق تصريح لسفير السعودية السابق لدى الولايات المتحدة تركي الفيصل مجالاً للمملكة «قد يجبرها على أن تحذو حذو إيران». وفي محاولة لوضع حدّ لـ«الأطماع الإيرانية وطموحاتها التوسعية في المنطقة»، رفعت الرياض لواء «توحيد الصف العربي»، وبدأت معركة «عزل طهران»، أولاً بشراء حلفاء الأخيرة الإقليميين عبر الوعود والأموال، وثانياً بشدّ العصب القومي والطائفي.
وكان أوّل المهتمين بالعرض السعودي (الولاء مقابل السلطة والمال) الرئيس عمر البشير. «الحقيقة هي أننا ضدّ التشيّع تماماً»، بهذه العبارة ردّ البشير عند سؤاله عن سبب إقدام الخرطوم، بصورة مفاجئة، على إغلاق عدد من المراكز الثقافية الإيرانية في البلاد أواخر 2014 بحجة أنها، وفق المتحدث باسم وزارة الخارجية السودانية آنذاك، «تهدد الأمن الفكري والاجتماعي السوداني».
عام ونصف عام كانت مدة كافية لينسى الرئيس السوداني (المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بموجب مذكرة توقيف) ما فعلته به السعودية، ثم ليعلن عقب «الاجتماع التاريخي» الذي جمعه بوزير الدفاع وولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في آذار 2015، مشاركة بلاده في العدوان على اليمن.
احتفلت الصحف العربية بـ«عودة السودان إلى كنف الأمة العربية والإسلامية»، وأثنت على «ديبلوماسية وحرفية ومهارة» ابن سلمان الذي «نجح في بضع ساعات فقط في تحويل الوجهة السودانية من إيران إلى السعودية»، ثم بدأت حملات التجييش والتضليل الإعلامي للعدوان، ووصلت إلى حدّ اعتبار قتل وتجويع أبناء أشد الدول العربية فقراً (اليمن) «مشيئة إلهية» و«جهاداً مقدّساً».
يقول الصحافي السوداني واصل علي إن الخرطوم سوّقت لمشاركتها «بشكل احتفائي مبالغ فيه»، منتقداً بيان القوات المسلحة السودانية الموجّه إلى المواطنين «الثوّار الأحرار»، الذي «جاء مليئاً بالشعارات والهتافات… ويشبه البيانات التي تصدر عن اتحادات الطلبة وليس عن مؤسسة عسكرية». وعن الأسباب التي دفعت السودان إلى المشاركة، قال نص البيان إنها أتت في إطار «حماية أرض الحرمين الشريفين، وحماية الدين والعقيدة»، كما أكد أنّ الشعب السوداني «لن يبقى مكتوف الأيدي والخطر يحدق بقبلة المسلمين، مهبط الوحي والرسالة الخاتمة». ويلفت علي إلى اختتام البيان بآية من «سورة آل عمران» (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ)، وثلاثة تكبيرات، مستدركاً: «كأنّ الجيش السوداني في طريقه لتحرير أراضيه المحتلة».
دارت الأيام الأولى للعدوان، وأعلن وزير الإعلام السوداني أن بلاده وضعت ستة آلاف جندي تحت تصرّف السعودية، لكن العدد استمر في الارتفاع مع انتشار التقارير التي تؤكد استبدال «التحالف» الجنود الإماراتيين والسعوديين بسودانيين في عدد من الجبهات التي شهدت سقوط خسائر مادية وبشرية كبيرة (مثل جبهة مأرب حيث خسر «التحالف» أكثر من 120 ضابطاً من جنسيات مختلفة بعد استهداف معسكر «تداوين» بصاروخ «توشكا»).
وفي منتصف تشرين الأول 2015، وصلت الدفعة الأولى من هذه القوات إلى ميناء عدن، عبر البحر الأحمر، وتلتها دفعة ثانية قيل إن مهمتها «إنقاذ» الجنود الإماراتيين أو تعزيز النفوذ السعودي على حساب حليفه الخليجي في المحافظات الجنوبية.
وفي الثالث من كانون الأول 2015، أي قبل يومين من إعلان مقتل أول جندي سوداني في اليمن، أعلن البشير أن بلاده «جاهزة لإرسال لواء إضافي يضم 1500 جندي»، وفعلاً وصل ذلك اللواء بعد أربعة أيام فقط إلى معسكر الصولبان في عدن، لتمارس الخرطوم بعد ذلك تعتيماً إعلامياً كاملاً حول قواتها استمر لأكثر من عام. وعلى ما يبدو، ستشهد الأشهر المقبلة وصول أعداد كبيرة من المقاتلين السودانيين، إذ أكّد مصدر مطلع وصول «كتيبة سودانية ضخمة يبلغ قوامها 1200 جندي» أواخر الشهر الماضي إلى ميناء المكلا الواقع تحت سيطرة القوات الإماراتية في محافظة حضرموت. وكشف المصدر في حديث إلى «الأخبار» أن «هذه القوة هي الدفعة الأولى من أصل 3800 جندي سوداني سيصلون إلى حضرموت تباعاً خلال الأسابيع المقبلة».
يشبّه الصحافي زهير عثمان حمد نقل «الآلاف من قوات الدعم السريع السودانية من مطار نيالا إلى المطارات السعودية المتاخمة للحدود اليمنية وبعض مطارات اليمن»، بـ«نقل 7800 من يهود الفلاشا من مطار كسلا إلى إسرائيل، عبر الموساد وجهاز الأمن في عهد (الرئيس الأسبق جعفر) النميري عام 1985»، مشيراً إلى أن دول الخليج اختارت السودان بعدما «أخفقت كل مساعيهم مع مصر وباكستان والمغرب وتركيا وبنغلادش» لجلب جنود.
وفي الذكرى الثانية لبدء العدوان (آذار 2017)، رفض نائب رئيس «لجنة الأمن والدفاع» في المجلس الوطني، التوم الفاضل، الإفصاح عن أعداد القوات السودانية في اليمن، واصفاً إياها بـ«المنضبطة والمحترفة والمؤثرة في الميدان». لكن، بعد بضعة أيام فقط من كلامه، ملأت صور جثث السودانيين في اليمن مواقع التواصل الاجتماعي، حتى حدثت المجزرة الأخيرة في صحراء ميدي.