القاهرة ــ الأخبارلعلّ أبرز العوامل التي جعلت الموقف المصري متوقعاً، أنّ العلاقات المصرية ــ القطرية بالذات، سبقت في توترها، كل التطوّرات التي جرت خلال السنوات الأربع الماضية، والتي أفضت، أمس، إلى أسوأ أزمة دبلوماسية داخل مجلس التعاون الخليجي. ولطالما شكت مصر من التدخل القطري في شؤونها الداخلية، ولا سيما بعد سقوط نظام «الإخوان المسلمين» في الثالث من تموز عام 2013، وما تلا ذلك من موقف عدائي للدوحة تجاه العهد الجديد في مصر، والذي تجاوز التنديد بما وُصف بأنه «انقلاب عسكري» على حكم الرئيس المعزول محمد مرسي، أو شن حملة إعلامية مستمرة على نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، أو حتى إيواء عدد من قادة «الإخوان».

وفي الواقع، تحفل التحقيقات الجارية مع رموز العهد «الإخواني»، ومثلها تصريحات المسؤولين المصريين، باتهامات عدّة لقطر بالعمل على زعزعة الاستقرار في مصر، حتى بعد التطبيع التدريجي للعلاقات الثنائية، غداة المصالحة الخليجية (2014) التي أثمرتها الوساطة الكويتية، لرأب الصدع الخليجي، بعد زلزال «30 يونيو».
ثمة مؤشر آخر، يمكن تعقبه لرصد التحرك المصري ضد الإمارة النفطية، تبدّى خلال ما سُمي القمة الأميركية ــ الإسلامية في الرياض، والتي خرج فيها الرئيس عبد الفتاح السيسي، عن أوركسترا التحريض على إيران، ليعلن، بشكل واضح، أن الإرهاب يتلقى دعماً من جهات باتت معروفة، لم يسمّها، ولكن لم يكن صعباً التوقع بأن المقصود بذلك قطر.
وعلى أثر ذلك، وفي موازاة الحجب الخليجي للمواقع القطرية، بعد «موقعة الاختراق الإلكتروني» المعروفة، عمدت مصر إلى إغلاق عشرات المواقع الإلكترونية، بحجة أنها تروّج للإرهاب.
ولكن إذا كان هذا هو الموقف المصري في جوهره، إلا أنه مستغرب في طريقة تظهيره، ولا سيما أن إرباكاً واضحاً ساد المشهد المصري خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية، عكس تساؤلات حول كيفية إدارة تلك الأزمة المتجددة.
وحتى ساعة متأخرة من ليل أمس، لم يكن قد تسرّبت أي تفاصيل تتعلق بقطر عمّا دار خلال اللقاء في القاهرة بين وزير الخارجية المصري سامح شكري، ونظيره السعودي عادل الجبير، حتى إن الصحافيين الذين تابعوا المؤتمر الصحافي المشترك، استغربوا عدم تطرق أي من الوزيرين إلى الأزمة المتصاعدة منذ أن انفضت مراسم الحفاوة بـ«دونالد العرب»، في اجتماع الرياض. وجدير بالذكر أن الوزيرين أنهيا مؤتمرهما من دون أن يتلقيا أسئلة الصحافيين، والتي كان من الطبيعي أن تتناول الوضع الخليجي المستجد.
="" title="" class="imagecache-465img" />
جزء من بقايا وآثار «مصيدة الصحراء» (الأخبار)تتشارك قطر حدودها البحرية مع كلّ من السعودية والبحرين وإيران والإمارات. وإذا أغلقت الدول المقاطعة العبور البحري في وجه الدوحة، ستغدو مياهها الإقليمية (اللون الأحمر) مفتوحة على المياه الإقليمية الإيرانية فقط (مارين ريجنز) | للصورة المكبرة انقر هنا


والمفارقة في هذا السياق، أن الدوائر الدبلوماسية في القاهرة باتت ليلتها، كما وأن شيئاً لن يحدث، إلى أن حلّ الفجر، وبدأت بيانات قطع العلاقات الخليجية في الظهور، ليعقبها بيان من وزارة الخارجية المصرية يعلن أن «حكومة جمهورية مصر العربية قررت قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة قطر، فى ظل إصرار الحكم القطري على اتخاذ مسلك معادٍ لمصر، وفشل كل المحاولات لإثنائه عن دعم التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيم الإخوان الإرهابى، وإيواء قياداته الصادرة بحقهم أحكام قضائية فى عمليات إرهابية استهدفت أمن وسلامة مصر».
وفي ما بدا ترجمة لكلمة السيسي أمام قمة الرياض، أشار بيان وزارة الخارجية إلى أن «قرار قطع العلاقات الدبلوماسية يعود لترويج قطر لفكر تنظيمَي القاعدة وداعش، ودعم العمليات الإرهابية في سيناء، فضلاً عن إصرار قطر على التدخل في الشؤون الداخلية لمصر ودول المنطقة، بصورة تهدد الأمن القومى العربي وتعزز من بذور الفتنة والانقسام داخل المجتمعات العربية وفق مخطط مدروس يستهدف وحدة الأمة العربية ومصالحها».
يطرح ذلك تساؤلات حول ما إذا كان القرار المصري سيّد نفسه! وإذا كان الأمر على هذا النحو، فلماذا رُبط قرار قطع العلاقات مع قطر بالموقف السعودي ــ الإماراتي (مع العلم بأن مصر ليست عضواً في مجلس التعاون)، أو لماذا لم يُتخذ في إطار اجتماع عاجل للجامعة العربية؟
مهما تكن الإجابة عن تلك التساؤلات، فإن تتبع السياسة الخارجية لمصر، خلال الفترة الماضية، يشي بتراجع خطير لتلك «القاطرة» التي كانت تقود السياسات العربية، أو معظمها، طوال عقود.
قد لا يكون نظام السيسي المسؤول الأول عن هذا التراجع، الذي بدأ عملياً مع نكسة عام 1967، التي استعيدت ذكراها المريرة يوم أمس، واستمر بعد خروج مصر عمّا كان يعدّ إجماعاً عربياً في أواخر السبعينيات، بعد ذهاب أنور السادات إلى القدس، وبعدها توقيع معاهدة كامب ديفيد... وبقية التفاصيل معروفة.
ولكن المستغرب ألا تجد الدبلوماسية المصرية، وهي الأكثر حنكة مقارنة بنظيراتها في العالم العربي، الإخراج اللائق لحفظ ماء الوجه، في وجه مئات الاتهامات بـ«التبعية» للسياسة السعودية، أو حتى لتجنب الإحراج، إذ إنّ البيان الرسمي الذي بثته قناة «الجزيرة» القطرية، خلا من أيّ إشارة إلى مصر، في معرض الأسف تجاه قيام «الدول الثلاث» (السعودية، الإمارات والبحرين) بقطع العلاقات.
في العموم، فإن القرار اتُّخذ، وشرعت مصر في اتخاذ الإجراءات اللازمة لتطبيقه، بدءاً باستدعاء السفير القطري إلى مقر وزارة الخارجية، وتسليمه مذكرة رسمية بإنهاء اعتماده، وإمهاله 48 ساعة لمغادرة القاهرة، مروراً بالإجراءات الأخرى، المرتبطة بقطع العلاقات الاقتصادية، ومن بينها وقف الرحلات الجوية على خط الدوحة ــ القاهرة، ابتداءً من اليوم الثلاثاء، إلى ما سوى ذلك من تدابير لتكريس القطيعة.

عامل المفاجأة في اتخاذ القرار أثار إرباكاً في الشارع المصري


ولكن عامل المفاجأة في اتخاذ قرار قطع العلاقات أثار إرباكاً في الشارع المصري، وتساؤلات حول الطريقة التي ستتعامل من خلالها الحكومة المصرية. أول تلك التساؤلات مرتبط بالتداعيات الاقتصادية للقرار، فإذا كانت خزائن السعودية جاهزة لتحمّل الأكلاف، فالوضع الاقتصادي في مصر يجعل طرح هذه التساؤلات مشروعاً. وليس المقصود في هذا السياق، التبادل التجاري بين مصر وقطر، والذي يُعدُّ هامشياً، وخصوصاً أنه يشهد أدنى نسب النمو منذ عهد «الإخوان»، وإنما جوانب أخرى، أبرزها أوضاع المصريين العاملين في قطر، والذين «يناهز عددهم الثلاثمئة ألف» (وفق تقديرات مصرية)، والذين قد لا تطمنئهم إجراءات من قبيل تخصيص خط ساخن من قبل وزارة الهجرة لتلقي شكاواهم، أو تطمينات كلامية كتلك التي أطلقها نجيب ساويرس من قبيل «إننا كرجال الأعمال سنتكاتف لتوفير فرص عمل للمصريين لو رغبوا في العودة من قطر».
وأما الجانب الآخر، فماليّ، ويتعلق بمصير الاستثمارات القطرية في مصر، والتي يبدو أن التعامل مع تداعيات قرار قطع العلاقات عليها، كان استلحاقياً وليس استباقياً، حيث إن مجلس الوزراء، كما أفادت وسائل إعلام مصرية، طلب من وزراء المجموعة الاقتصادية دراسة شاملة ودقيقة حول السيناريوات المحتملة تجاهها. ويضاف إلى ذلك الإرباك في سوق المصارف بعدما سرت أنباء عن وقف بعض المصارف التعامل بالريال القطري، كتدبير وصف بـ«الاحترازي» (الأمر الذي نفاه المصرف المركزي لاحقاً).
برغم ذلك، يبقى مرجحاً أن تستوعب مصر التداعيات السلبية لقرار قطع العلاقات ــ سواء بجهود ذاتية أو بمساعدة خليجية ــ وربما يحقق لها هذا القرار مكاسب سياسية، تتراوح بين تعزيز مقاربتها «لمكافحة الإرهاب» أو حتى تقويض محاولات التشويش القطرية، التي وصلت إلى «سد النهضة» الإثيوبي.
لكن ذلك لا ينفي السؤال حول استقلالية القرار المصري... وخاصة إذا تحققت المصالحة الخليجية ثانيةً.




دبلوماسيون يبررون

في مسعى لتبرير الموقف المصري، يقول مصدر دبلوماسي رفيع ومطلع على تفاصيل المفاوضات والاتصالات التي جرت في الساعات السابقة لإعلان قطع العلاقات الدبلوماسية، إنّ «ثمة مطالب كانت قد أُرسِلت عبر وزير الخارجية الكويتي (الكويت تقود الوساطة الخليجية) إلى الدوحة لطيّ صفحة الخلافات ووقف التطاول الإعلامي على قادة الخليج، وغيرها من التفاصيل التي تضمن ترتيبات سياسية متوافقة مع سياسة بقية الدول الخليجية، لكن الدوحة أبلغته برفض مجملها وعدم قبول أي إملاءات عليها».
ويضيف المصدر أن «الرد القطري وصل مساء أمس متأخراً، وذلك خلال وجود الجبير في القاهرة»، موضحاً أنّ الأخير «غادر سريعاً، فيما بقي شكري في مبنى الخارجية حتى الصباح». ويقول المصدر إنّ «مصر كانت ترغب في اتخاذ هذه الخطوة منذ سنوات، لكن لم يتم هذا الأمر بسبب الوسطات المستمرة لاحتواء الأزمة من قبل الدول الخليجية».
جدير بالذكر أنّ اليونان وافقت أمس، على طلب مصر أن تمثلها دبلوماسياً في قطر بعد قطع العلاقات.