لا يمكن التقليل أبداً من حجم الهزيمة التي لحقت بنا إثر عدوان العدو الصهيوني عام 1967، وكذلك من تأثيراتها في الوضع الفلسطيني وبالتالي العربي. وبمراجعة ما توافر من مؤلفات تعتمد المحفوظات المفرج عنها مراجعَ، إضافة إلى مقالات وتقارير ومقابلات مع شخصيات بارزة كان لها دور مهم ومؤثر في الأحداث التي قادت إلى نكبتنا الثانية، تتأكد ضرورة الاستعانة بأكثر من مرجع، وكذلك أهمية الاستماع إلى الآراء كافة، مع الاعتماد في النهاية على فرز الحقائق من نصف الحقائق أو ما يعرف حالياً بـ«الحقائق البديلة».
ثمة أمران ذوي علاقة بعدوان حزيران أود تناولهما هنا بالحديث، وهما تحديد المسؤول عن هذه الهزيمة المروعة، التي لا نزال ندفع ثمنها الباهظ إلى يومنا هذا، وكذلك النتائج السلبية المسكوت عنها.

المسؤولية

لقد قيل الكثير عن توريط السوفيات للرئيس جمال عبد الناصر بتأكيد التزامه بعد المبادرة بالحرب، وقيل أكثر عن عدم كفاءة السلاح السوفياتي مقارنة بالفرنسي الذي كان بحوزة العدو الصهيوني، وقيل أكثر فأكثر عن توريط النظام السوري وقتها للرئيس المصري، والمزايدة عليه وطنياً وقومياً. لكن قيل أيضاً إن آل سعود، وكان المغدور فيصل ملكهم آنذاك، طلبوا من واشنطن الإطاحة بعبد الناصر. وقيل غير ذلك الكثير الكثير.
هذه أمور تبدو للوهلة الأولى ذات علاقة مباشرة بالمسألة، لكن الحقيقة المؤلمة تكمن في مقلب آخر. منطلقنا حقيقة أن الجماهير العربية منحت الرئيس الراحل شيكاً على بياض وأعطته ثقتها العمياء، بل ونقول: إنها كانت على استعداد لعبور المحيطات سباحة إن طلب منهم.

آثر جمال عبد الناصر تقديم العواطف
على العقل


بدايةً علينا، في ظنّي، العودة قليلاً إلى أحداث أحاطت بمصر عبد الناصر، ونائبه عبد الحكيم عامر، وأمور أخرى في تلك المرحلة.
لقد عهد عبد الناصر أمر القوات المسلحة المصرية إلى صديقه عامر، الذي ابتدع له رتبة عسكرية هي «المشير»، وتمسك به رغم فشله المستمر حيث قاد مصر إلى الهزيمة في كافة معاركها. فقد هُزم في عام 1956، وهُزم في اليمن، وهُزم في حرب الرمال في الصراع الجزائري ـ المغربي، وقبل ذلك كان «بطلاً مأساوياً» لفضيحة مدوية عندما اعتقله انفصاليو سوريا عند انقلابهم على دولة الوحدة.
المنطق يقول إنه كان على عبد الناصر طرد المشير من منصبه بعد أول إخفاق، وتعيين قيادات عسكرية جديدة، لأنه «من السهل أن تصل إلى الحكمة بعد فوات الأوان». لا نظن أن عبد الناصر كان لا يعرف رأي الشعب المصري في عبد الحكيم عامر الذي تلخصه مقولة: «ثلاثة لا يظلهم الله بظله... والحكيم بن عامر الذي قضى العمر في عشق وردة»؛ أما الوردة المقصودة هنا فهي الجمرة المتوهجة التي توضع على الحشيش في النارجيلة. عبد الناصر آثر الاحتفاظ بنائبه من باب الصداقة التي كانت تربطهما. هذه العواطف إنسانية ومفهومة، لكنها قد تكون من الأمور المدمرة والقاتلة إن أثَّرت في الحكم على أهلية شخص لمنصب، وقد رأينا ذلك يتكرر في كافة مواجهات مصر الخارجية.
لقد كان على الرئيس جمال عبد الناصر، القائد الأعلى للقوات المسلحة، طرد نائبه واستبداله بقادة عسكريين قديرين بعد أول إخفاق. لكنه آثر تقديم العواطف على العقل.
من الأمور الأخرى التي تروى بالعلاقة مع عدوان عام 67 أن قائد القوات الجوية وقتها، الفريق أول صدقي محمود حذر في آخر لقاء له مع عبد الناصر ونائبه من مغبة السماح للعدو الصهيوني بالمبادرة بالحرب، التي تأكد أنها آتية بعد ساعات، لكن «المشير» رفض ذلك لأنه سيعني مواجهة الولايات المتحدة. عندها قال الفريق أول: «هذا يعني كارثة» وهو فعلاً ما حصل لأن عبد الناصر انحاز لرأي نائبه وصديقه، مغلباً العاطفة على التفكير المنطقي.
على أي حال، ثمة معلومة رواها لي صديق مطلع هي أن عبد الناصر كان ينوي إقالة عامر عبر إبعاده أولاً إلى يوغسلافيا، ما يعني أنه كان يعلم حقيقة المشير التي شكلت مصدر تهكم الشعب المصري عليه. وعملية التطهير الواسعة في صفوف قيادات القوات المسلحة المصرية التي أجراها بعد الحرب تدل على علمه بمدى عدم أهليتهم للمناصب التي كانوا يشغلونها: لكن «من السهل أن تضحي حكيماً بعد فوات الأوان».
ولا ننسى أن عبد الناصر عادى الرئيس العراقي المغدور عبد الكريم قاسم، فقط لأن الأخير رفض قبول قيادته، مغلباً عواطفه الشخصية على التقويم العاقل للرئيس العراقي الوطني والقومي. انتهى الأمر إلى حقيقة مؤلمة ترد في الوثائق الرئاسية الأميركية المفرج عنها التي تقول: إن واشنطن اتفقت مع عبد الناصر على التخلص من قاسم لأنه كان يحابي الشيوعيين، فأرسلت أحد عملائها واسمه صدام حسين التكريتي، لاغتياله. عندما فشلت العملية الغادرة، عملت وكالة الاستخبارات المركزية (cia) إلى نقل مقترف الجريمة الفاشل إلى منزل الملحق العسكري المصري في بغداد، ومن ثم نقلته سراً، بالتعاون مع المخابرات المصرية، إلى القاهرة.
لكن قاسم كان وطنياً ولم يكن خائناً. كل ما في الأمر أنه رفض الانصياع لقيادة عبد الناصر فكان مصيره القتل بعد انقلاب رفيقه عبد السلام عارف عليه.
خطأ الرئيس عبد الناصر في هذه المسألة يكمن أيضاً في وقوفه ضد عراق عبد الكريم قاسم عندما طالب الأخير بضم الكويت، ما دفعه إلى إدارة ظهره إلى مبادئه ألا وهي معاداة الرجعية والإقطاع حيث وقف إلى جانب الأخيرين، وفق تعريفه هو، وهو صحيح طبعاً، ضد من أطاح بنظام سايكس بيكو العراقي الذي شكل ضربة موجعة للاستعمار الأنغلو ـ أميركي.
رَفْض الرئيس العراقي المغدور قبول قيادة عبد الناصر القومية وهيمنته على الساحة العربية دفعت الأخير لمعاداة قائد عراقي وطني، بطل ثورة تموز 1958.
مسألة تغلب عواطف الرئيس الراحل على القرار الصحيح إبعاده رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسسها الراحل أحمد الشقيري وتسليمها إلى قيادات «فتح» التي كانت مرتبطة به شخصياً وبأجهزة استخباراته ومطواعة وجاهزة لتبني مواقفه السياسية بعد عدوان عام 67.
تغليب العواطف لدى عبد الناصر نراه يتكرر لكن هذه المرة على الصعيد الشخصي، مع نتائج مريعة. فقد أخضع القرار الصحيح لعواطفه الخاطئة عندما وافق، وإن بعد رفض ثم تردد، على زواج أشرف مروان من ابنته، برغم تحذير المخابرات المصرية له من هذا الشخص، وبرغم عدم محبته له إطلاقاً. الأخبار تقول إن مروان كان جاسوساً للعدو الصهيوني. يا لها من كارثة.
من الأمور الثابتة أن سبب عدوان عام 67 الآني حينئذ والمباشر وافره قيام الرئيس عبد الناصر بإغلاق مضيق تيران أمام ملاحة العدو الصهيوني من ميناء إيلات «أم الرشراش». وهنا لا بد من القول إن العرب تفاجؤوا بأن السفن «الإسرائيلية» كانت تمر بحُرِّيَّة من إيلات، برغم أنه كان محظوراً عليها ذلك قبل العدوان الثلاثي. لا شك في أن السماح لها بذلك كان جزءاً من صفقة سرية لم تنشر تفاصيلها بعد لانسحابها من سيناء، لكننا نعلم بعضها؛ يضاف إلى «حرية الملاحة في مضيق تيران»، منع العمليات الفدائية الفلسطينية من غزة.هزيمة حزيران شكّلت بدء هيمنة العهد السعودي
على العالم العربي


لقد أُبلغ عبد الناصر بأن إغلاق مضيق تيران يعني الحرب وكان عليه اتخاذ إجراءات استثنائية استباقية، لكنه لم يفعل.
بل ثمة شواهد كثيرة على أن السبب الرئيس لتصعيد مصر الأوضاع مع العدو هو اتخاذها ذريعة لسحب القوات المسلحة المصرية من اليمن حيث كانت تعاني ما تعانيه عسكرياً، إضافة إلى إنهاك الخزينة المصرية.
المسألة لم تكن ذات علاقة بأخبار مضلِّلة عن حشود «إسرائيلية» مزعومة على الجبهة الشمالية ولا بفلسطين، متذكرين حقيقة أن حركة القوميين العرب كانت قد أعلنت في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي، فك ارتباطها بالرئيس عبد الناصر وعدم قبول قيادته وإنهاء دعمها له بسبب ابتعاده عن قضية فلسطين، وهو ما يرد في وثائقها الرسمية.

النتائج

النتيجة المدمرة للعدوان تتمثل أولاً وأخيراً في ضياع البقية الباقية من فلسطين وتراجع مكانتها في الخطاب الرسمي العربي ومكانها فيه. بل إن التطورات اللاحقة ذات العلاقة تبيّن أن ذلك كان مقصوداً وجزءاً من مساومة حيث استبدل الخطاب الرسمي العربي إزالة آثار العدوان وبـ«الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، بما في ذلك تأسيس دولته المستقلة» بشعار تحرير فلسطين. وما فرض كون «منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني»، إلا خطوة على طريق تكليف زعامات فلسطينية تحظى برضا عصر البترودولار ورعايته، وبالتالي التحكم في قراراته كافة، السياسية والعسكرية والفكرية والمالية، بالتنكر لحقوقنا الوطنية/ القومية في بلادنا، ورفع المسؤولية المباشرة للتخلي عن حقوقنا عن أعراب الجامعة العربية المهترئة، وهو ما حصل.
إضافة إلى تخريب الساحة الفلسطينية، شكّلت منظمة التحرير وزعاماتها الفتحاوية التي عينها الرئيس عبد الناصر عقب هزيمة حزيران حصان طروادة لاختراق مختلف اتجاهات الحركة الوطنية العربية والعالمية وتنظيماتها وفرض الوصاية عليها، التي تجمعت في بيروت بعد أيلول الأسود عام 1970/1971 وتخريبها ومن ثم القضاء عليها.
هزيمة حزيران شكّلت بدء هيمنة العهد السعودي على العالم العربي. فخضوع مصر لإملاءات آل سعود وفي المقدمة منها قبول عبد الناصر قيادة الملك فيصل عنى القضاء على أي أمل قومي، وانتقلت «قيادة» المشهد العربي إلى البترودولار، وهو ما ساهم إلى حد كبير في إيصالنا إلى ما نحن فيه من قاع لا قاع له!
وتتجلى المرحلة السعودية هذه بإبعاد عبد الناصر الراحل أحمد الشقيري الذي رفض الخضوع لأوامر القاهرة، ووضع قيادة فتح التابعة له والمرتبطة به بديلاً منه. أذكر في هذا المقام حادثة ذات مغزى، ففي اليوم التالي لتظاهرة المئة ألف في عَمان التي دعا إليها العمل الفدائي والمندّدة بمبادرة روجرز ورافضة له، صدرت صحيفة «فتح» بعنوان رئيس هو «مئة ألف يهتفون بسقوط مشروع روجرز ودعاته». في تلك التظاهرة قامت عناصر من الجبهة الديموقراطية بوضع صورة جمال عبد الناصر على مؤخرة حمار، فانقض عليهم عناصر من «فتح» وأبعدوا الصورة. في اليوم التالي لصدور ذلك العدد، حضر الراحل ياسر عرفات مبكراً إلى مقر الإعلام المركزي لعلمه بأن دوام هيئة تحرير الصحيفة يبدأ ظهراً. طبعاً لم يجد أحداً، عدا الصديق والأخ نزيه أبو نضال، فبادر صارخاً: «حضرتكم تقدروا على عبد الناصر. إيه الكلام ده!». رد أبو نضال: ليش بتصرِّخ؟ نحن نقلنا نداءات الجماهير! أقول كل ما قلت كوني شاهداً، حيث كنت وقتها متفرغاً في الإعلام المركزي التابع لحركة «فتح» في الأردن. من المهم هنا التذكير بأن أعضاء هيئة تحرير الصحيفة كانوا من القامات ولم يكن بمقدور عرفات التصدي لهم، أذكر منهم الشهيدين كمال العدوان وماجد أبو شرار والراحل ناجي علوش والمغدور حنا مقبل «أبو ثائر» ومحمد أبو ميزر «أبو حاتم» وغيرهم.
لقد قبلت القاهرة بعد العدوان القرار 242 الذي يطالب بالاعتراف بكافة دول المنطقة ضمن حدود آمنة ومعترف بها، وتحولت القضية الوطنية/ القومية الفلسطينية إلى قضية لاجئين «وحل عادل» لقضيتهم. وعندما استمر الراحل أحمد الشقيري في رفض قرارات الخرطوم التلفيقية وإعلانه أن العرب تخلوا عن فلسطين، أبعده وجلب مكانه قيادة مطواعة.
كما تتجلى النتائج الكارثية لعدوان عام 67 في إجبار عبد الناصر، مع بقية الأعراب، العمل الفدائي على تسليم السلاح الثقيل والمتوسط لنظام عمان ومغادرة الأردن، أي إبعاد الحركة الوطنية عن حاضنتها الشعبية واستبدال بترودولارات آل سعود الفاسدة والمفسدة بالدعم الجماهيري الثوري.
لنتذكر هنا أن عبد الناصر، الذي أولى مليك الأردن ثقته، كان يقول: جزمة جندي مصري تساوى عرش ابن سعود وابن زين!
لقد شكلت هزيمة حزيران المروعة الانصياع الكامل لشروط واشنطن بخصوص الصراع مع العدو الصهيوني، وتحول العمل الفدائي إلى تشكيلات ميليشياوية، كل ذلك «بفضل» البترودولار. وأيضاً بـ«فضل» زعامة المنظمة الجديدة (الزعامة والمنظمة)، تحول قسم كبير من الشعب الفلسطيني من علماء ومربين ومفكرين ومناضلين حقيقيين إلى «فدائيي ــ كذا!» في تلك المليشيات التي قضت على الثورة البرعمية.
هذه بعض نتائج عدوان عام 67، وكذلك نتاج السياسات الخاطئة التي اتبعها عبد الناصر. لقد قدّم عبد الناصر الكثير مادياً لمصر وشعبها، ولذا رفض قبول استقالته وخرجت مسيرات مليونية حقيقية في وداعه. كما كان لشخصيته الساحرة تأثير كبير بين شعوب العالم فصار اسم العرب يعني جمال عبد الناصر. لا نشك أبداً في أن الراحل كان صادقاً في طموحاته، لكن يبدو أنه أدرك أن قدرات بلاده وشعبه كانت دونها، وهذا ما قد يشرح استسلام السادات العلني واللامشروط، ومن بعده الزعامات الميليشياوية الفلسطينية.
أخيراً أقول إنني كثيراً ما كنتُ أشير إلى الرئيس جمال عبد الناصر بصفة «خالد الذكر» وأني كنت من بين الملايين الذين بكوا عندما أعلن استقالته في أعقاب هزيمة حزيران، كما رأيتُ والدي يبكي، وأيضاً كنت من بين الملايين الذين فرحوا عندما تراجع عن استقالته، وكنت أرى الناس في شوارع العاصمة الليبية طرابلس وهم يتعانقون فرحاً.
شخصية عبد الناصر الساحرة، طغت على قلوبنا وعقولنا، كما منحته مكانة متقدمة لدى شعوب دول «العالم الثالث» إلى جانب قادة كبار من وزن سوكارنو ونهرو وتيتو ونكروما وشوآن لاي وبندرنيكه ومنديلا ولومومبا، وغيرهم.
عندما توفي عبد الناصر كنت في المعتقل الأردني في «مدرسة المشاة» قرب مدينة الزرقاء حيث أسرتني قوات البادية، مع بضع مئات من الأفراد الذين تجاوزت أعمارهم الخامسة عشرة، بعدما اقتحمت جبل الحسين والمخيم. علمت بخبر وفاته عندما سألتُ أحد حراس المعتقل عن سبب انتقال الإذاعة إلى القرآن، أجابني ضاحكاً: «مات حاميكم عبد الناصر». هكذا كانت ردة فعل البداة عماد نظام مليك البلاد سليل الأسرة الهاشمية (!)، على وفاة عبد الناصر. قبل ذلك بسويعات، كان الراحل قد منح الملك الزُغَيَّر وسليل الخيانة، كما كان يطلق عليه، ثقته بـ«حماية» العمل الفدائي وفق اتفاقية عمان عام 1970!
البلادة كانت قد ضربتنا في المخيم، فلم أرَ أياً من الرفاق المعتقلين يذرف دمعة. كانت أيام الحرب والقتال والمعتقل، ووحشية هجوم قوات البادية وقصف عمان المتواصل بالمدفعية الثقيلة مع تركيزها على جبل الحسين مقر القيادة الفلسطينية آنذاك، قد استنفدت أحاسيس كثيرة فينا، ولم يعد يهمنا سوى أمر واحد هو ثورتنا البرعمية ومصيرها.