ليست المرة الأولى التي تتدخل فيها الكويت لـ«رأب صدع» في جدران مجلس التعاون الخليجي المتهالكة. سبق للإمارة المشهود لها بالتمايز أن أدت دوراً «توفيقياً» عام 2014، أوصل إلى «المصالحة الخليجية»، التي استبان لاحقاً، كما كان متوقعاً، أنها ليست أكثر من مسكّن فرضت تناوله ضرورة التوحد بمواجهة الأعداء المشتركين.
اليوم، تعود الكويت إلى لعب ذلك الدور، محاوِلة «لفلفة» الأزمة التي ولّدتها التصريحات المنسوبة إلى أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، التي تضمنت انتقادات للسعودية والإدارة الأميركية الجديدة ودعوة إلى التحاور مع إيران. فهل ينجح الكويتيون في مسعاهم هذا، كما نجحوا، نظرياً، قبل 3 سنوات؟
حتى الآن، لا تشي المؤشرات السياسية بإمكانية تحقق ذلك. على الرغم من تسارع وتيرة الاتصالات الكويتية ــ القطرية، وحضور ملف الخلاف مع الرياض وأبوظبي على طاولة القمة التي انعقدت، الأربعاء، بين تميم وأمير الكويت، صباح الأحمد الجابر الصباح، فإنّ استمرار الهجوم السعودي ــ الإماراتي على الدوحة وبلوغه دوائر كانت حتى وقت غير بعيد منفية من النقاش (أسرة آل الشيخ مثالاً) ينبئ بصعوبة المهمة هذه المرة. مهمة لا تشبه بأي حال ما كان على الوسيط الكويتي فعله عام 2014. حينذاك، كانت قطر في موقع المهاجم المبادر الذي يفسد على السعودية والإمارات خططهما في سوريا وليبيا ومصر، فيما كانت الرياض وأبوظبي في موقع المتضرر الذي يريد كبح جماح خصمه، ولم تأت عملية سحب السفراء الشهيرة إلا تعبيراً عن ذلك الضيق الذي بلغ أوجه. وبالتالي، لم يتطلب الأمر من الكويت أكثر من استدرار تعهدات شكلية من قبل الدوحة، أعقبتها مشهدية «تبويس لحىً» في الرياض.
أما اليوم، فإن الرياض وأبوظبي هما اللتان أطلقتا الشرارة الأولى للأزمة، ولا يبدو أنهما في وارد التراجع عما عزمتا عليه: تأديب قطر حتى تعود، فعلياً لا نظرياً، إلى «بيت الطاعة»، أو تضييق الخناق عليها حتى كسر رهاناتها (نقلت وكالة رويترز، الأربعاء، عن مسؤول خليجي قوله إن «الصبر نفد. والمؤكد أن دول الخليج بقيادة الرياض لن تتساهل على الأرجح في أي انحراف إذا كان متعمّداً، خاصة في المنعطف الحالي في علاقتنا مع جارتنا المعادية، إيران»). إزاء تلك الاحتمالات، ما الذي تملكه الدوحة من خيارات؟ وما الذي يستطيع الكويتيون المساعدة به؟
يراهن القطريون على من يعتبرونهم «العقلاء» داخل مؤسسة الحكم السعودي، أي جناح ولي العهد، محمد بن نايف، الذي يتأمل فيه آل ثاني قدرة على «فرملة» اندفاعة منافسه، ولي ولي العهد، محمد بن سلمان، ومن ورائه ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد. وعليه، لا يجد أمير قطر بدّاً من تحميل الكويتيين رسالة لبن نايف، بأنه لا يزال هنالك متّسع للتراجع وإعادة الحسابات والتفاوض.
لكن ما كان ممكناً في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز، لا يبدو أنه سيجد له مكاناً في العهد السعودي الجديد، الذي تميل فيه الكفة بوضوح إلى مصلحة بن سلمان، الشاب المأخوذ بأفكار «عيال زايد» والطامح إلى هزم خصومه في غير اتجاه داخلي وخارجي. من هنا، تظهر احتمالات فشل الوساطة الكويتية متقدمة على إمكانات نجاحها. فشلٌ ستعقبه، على الأرجح، خطوات عملياتية سعودية إماراتية في مواجهة قطر، التي لا شيء يوحي بأنها ستتراجع عن موقفها (خصوصاً أنها تلقت أخيراً إشارات إيجابية من واشنطن)، تبدأ من قطع العلاقات ولا تنتهي عند الحصار المتعدد الأشكال. لكن الأهم يبقى انعكاس ذلك الإخفاق المحتمل على موقع كل من الكويت وعمان داخل مجلس التعاون.

قد تعقب فشل الوساطات خطوات عملياتية سعودية إماراتية ضد قطر

تدرك الدولتان، اللتان تحفظان لنفسيهما هامشاً بعيداً من مصفوفة الثوابت والمحددات السعودية على المستويين الداخلي والخارجي، خطورة الأزمة المندلعة راهناً. وهو ما ترجمتاه ببدء اتصالات على مستوى رفيع، خلال اليومين الماضيين، دشنها اتصال أجراه ولي العهد الكويتي، نواف الأحمد الجابر الصباح، بنائب رئيس مجلس الوزراء العماني، فهد بن محمود آل سعيد (بالتوازي مع ذلك، توجه وزير الخارجية العماني، يوسف بن علوي، إلى القاهرة، في زيارة قيل إن من بين أهدافها الحصول على دعم مصر للتهدئة بين قطر ودول الخليج). اتصالات تشير إلى محاولة الكويتيين والعمانيين تطويق الخلاف، ومنعه من تجاوز الحملات الإعلامية المتبادلة، لكنها، في الوقت نفسه، لا تبدو بعيدة من النقاش القديم الجديد حول علاقة السعودية بكل من السلطنة والإمارة، اللتين لم تبتلعا، إلى الآن، نفس المملكة العدائي تجاه الأغيار، خصوصاً أن «هذه الأمور تتطور أحياناً بما يتعذر معه السيطرة عليها»، بحسب تعبير جيرد نونمان، أستاذ العلاقات الدولية والدراسات الخليجية في جامعة جورجتاون بقطر.
يبعث النزاع القائم حالياً المخاوف التاريخية العمانية من «الغول» السعودي، وإمكانية تمدده نحو السلطنة «الوادعة»، سواء بسوط «الإسلام الصحيح»، أو بتهديد ظهيرها الجنوبي الغربي في اليمن، أو بالضغط الاقتصادي والمالي، أو حتى بعمل عسكري. كذلك تبعث الأزمة مخاوف كويتية مماثلة من تضاعف الضغوط على مساحة الحرية والمناورة التي تتحرك داخلها الإمارة، وتحريك الخلايا السلفية و«الداعشية» لإثارة القلاقل وزعزعة الأمن، وتصعيد النزاع على الحقول النفطية المشتركة، وصولاً حتى إلى العمل العسكري.
هذه المخاوف المكبوتة ليست وليدة اليوم، بل هي متقادمة قدم عمر الدول المشكلة لمجلس التعاون، لكنها ظلت مضبوطة بـ«التعقل» السعودي، والكابح الأميركي البريطاني، ومتنفسات الكواليس التي يسعى كل طرف من الأطراف «الصغرى» فيها إلى بلورة سياساته بعيداً من الراعي السعودي. غير أن الحاصل راهناً، أن «الاستشراس» السعودي الإماراتي ضد قطر ينذر بانكسار بعض من تلك القيود، وإمكانية وصول الموسى إلى رقبة الكويتيين والعمانيين، في حال تطوُّر النزاع مع الدوحة إلى مستويات أكثر خطورة.
فهل تعمد الكويت ومعها عمان، انطلاقاً من استشراف «واعٍ» لمستقبليهما، إلى تظهير نسق خليجي مغاير لما تسيّده السعودية والإمارات؟ وهل تملكان النضج والقدرة الكافيين لذلك؟ وفي حال تجرؤهما على الجهر بما تتداولانه سرّاً، أي موقف ستتخذه قطر التي تحتاج، حتماً، ظهراء في مواجهتها المنتظرة مع الرياض وأبوظبي؟ والأهم، هل سيسمح الضابط الأميركي بسيناريوهات كهذه تفرط عقد مجلس التعاون الخليجي، وتخلط أوراق الاصطفافات «التقليدية» في المنطقة؟ أسئلة لا يزال من المبكر تقديم أجوبة جازمة عليها، لكن الثابت أن الحل، على الأقل كما يقول صقور السعودية والإمارات، لن يكون على نسق ما جرى عام 2014.




«مجلس التعاون»: تاريخ من الخلافات


تعود الخلافات بين دول الخليج إلى بدايات قيام تلك المشيخات، ودخولها في دورات تنازع متكررة على الحدود. فما بين قطر والسعودية، على سبيل المثال، خلاف ترجع جذوره إلى الدولة السعودية الأولى التي جردت نحو 3 «غزوات» للاستيلاء على قطر، لكونها تعدّ الأخيرة جزءاً من الأحساء. وفي عام 1992، وقعت معركة الخفوس الحدودية الشهيرة بين الطرفين، بعدما استولت السعودية، باتفاق مع الإمارات، على الشريط الساحلي المعروف بخور العديد، مجبرة القطريين على المرور في الخور للوصول إلى الإمارات (حتى اليوم، لا حدود برية مباشرة بين قطر والإمارات). وعلى الأثر، عمدت الدوحة إلى استفزاز الرياض بإقامة مركز حدودي في الخفوس، ما دفع الأخيرة إلى إطلاق حملة عسكرية سيطرت بنتيجتها على الخفوس التي لا تزال محل تنازع إلى الآن. أما ما بين السعودية والكويت، فخلاف قديم على كميات هائلة من النفط في باطن المنطقة المحايدة التي قُسِّمَت عام 1964. وتشكو الكويت من التفرد السعودي في إدارة حقلَي النفط المشتركين في الخفجي والوفرة، اللذين لا يزالان متعطّلين عن الإنتاج، بفعل الاعتراض الكويتي. وبالنسبة إلى عمان، فعلى الرغم من تسوية خلافها مع الإمارات على واحة البريمي، إلا أن اقتطاع أجزاء منها وضمها إلى العين الإماراتية، بعد محاولات سعودية حثيثة للسيطرة على الواحة بأكملها، لا يزال محفوراً في الذاكرة العمانية، فيما قد تسبب الخلافات المستجدة إيقاظه من سباته.