تونس | مرّ أسبوع على توقيف رجل الأعمال شفيق جراية، في عملية فتحت الباب أمام سلسلة من التوقيفات. ويُعدُّ جراية شخصية مثيرة للجدل؛ ففيما يصف نفسه برجل الأعمال والناشط السياسيّ، يعدّه خصومه رمزاً من رموز الفساد وأحد العاملين على تخريب الاقتصاد الوطنيّ وإغراق الساحة السياسيّة بالمال الفاسد.
وجرى إيقاف جراية في عملية أمنية، إذ تقول رواية شهود عيان إنّ الرجل «كان بصدد احتساء قهوة في أحد مقاهي منطقة البحيرة» في الضاحية الشمالية للعاصمة، «حين دهمته وحدة أمنيّة خاصّة»، واقتادته إلى جهة غير معلومة. ولم تمضِ ساعات، حتى تتالت الإيقافات، فانضم إلى القائمة ياسين الشنوفي، رجل الأعمال والمترشح السابق إلى انتخابات 2014 الرئاسيّة والضابط السابق في الجمارك، ثمّ تبعته ستة أسماء أخرى لرجال أعمال وضباط سابقين في الجمارك. ويبدو أنّ يوم أمس شهد توقيفا جديداً، إذ «أصدر القضاء العسكري مذكرة توقيف بحق المدير العام الحالي للأمن السياحي، والرئيس السابق للوحدة الأمنية للبحث في جرائم الارهاب في منطقة القرجاني (قرب تونس العاصمة)، للتحقيق معه»، وفق ما نقلت «فرانس برس» عن مسؤول أمني، أوضح أنّ «شفيق جراية توسّط في وقت سابق لصالح موقوفين مشتبه فيهم في جرائم ارهابية، لدى هذا المسؤول عندما كان رئيساً لوحدة بحث في جرائم الإرهاب».

غموضٌ لم ينجلِ


مع تتالي عمليات الإيقاف وارتفاع عدد أسماء الموقوفين، تفتحت قريحة المعلّقين على تأويلات متباينة، وزاد غياب التوضيحات الرسميّة، الخيط الناظم للعمليّة غموضاً. فمن جهة، يبدو لارتباط أسماء الموقوفين بالتهريب والجمارك علاقة بشهادة عماد الطرابلسي، ابن أخي ليلى بن علي، زوجة الرئيس الأسبق، التي عرضتها «هيئة الحقيقة والكرامة» في إطار جلسات الاستماع العلنيّة. وقد تحدّث الطرابلسي في شهادته عن عمليات فساد متعلقة بتهريب بضائع وتقديم رشاوى وعمليات تزوير جمركيّة، ولمّح في سياق حديثه إلى أسماء عدد من الموقوفين دون ذكرها صراحة.
ومن جهة أخرى، فإنّ جزءاً آخر من المحللين، ربط العمليّة بما يحصل في الجنوب التونسي من احتجاجات، وما يحصل في غرب ليبيا من مواجهات دامية، وإن على نحو موارب. وفي السياق، أشارت صحيفة «لابراس» الحكوميّة، نقلاً عن مصادر في رئاسة الحكومة، أنّ شفيق جراية قابل منذ مدة في جنيف جان إيف أوليفييه، رجل الأعمال الفرنسي المقرّب من الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، والناشط في ما يعرف بالدبلوماسيّة الموازية، الذي تنسب إليه الصحيفة الاشتغال في صفقات تجارة سلاح وبترول وألماس سريّة، كذلك أكدت أنّ الإيقاف جاء بعد بحث أمنيّ على مستوى وطنيّ وإقليميّ ودوليّ.
ولعلّ السيناريو الأخير تعزز بالبلاغ الذي أصدرته وزارة الداخلية، والذي جاء فيه أنّ العمليّة جرت بمقتضى قانون الطوارئ الذي يخوّل «وضع أي شخص يُعَدّ نشاطه خطيراً على الأمن والنظام العامين تحت الإقامة الجبريّة»، وأن الأمر حصل على أساس «ما توافر من معطيات تثبت ارتكابهم لخروقات من شأنها المساس الخطير بالأمن والنظام العامين». فضلاً عن أنّ فترة الإقامة الجبرية لشفيق الجراية، انتهت بإصدار النيابة العسكريّة بتونس العاصمة بطاقة إيداع بالسجن في حقه، وفتح تحقيق ضده من أجل الاعتداء على أمن الدولة الخارجيّ والخيانة والمشاركة في ذلك ووضع النفس تحت تصرف جيش أجنبيّ في زمن السلم، فيما أجّلت الاستماع له إلى حين حضور محاميه واطلاعه على الملف. وأُردِفت بطاقة الإيداع بقرار من لجنة المصادرة، قضى بمصادرة أملاكه وتجميد حساباته البنكيّة (تشمل أملاكه، حسب ما رشح من أخبار، وسيارات وعقارات وضعها على ذمة إعلاميّين وسياسيّين من بينهم أعضاء في مجلس نواب الشعب)، إلى جانب أملاك وحسابات بقية الموقوفين.

مساندات مشروطة

حوّلت بعض الصحف مبكراً يوسف الشاهد، إلى بطل وطنيّ، ولم تتردد فعاليات وأحزاب سياسيّة في التعبير عن مساندتها لخطوة الحكومة. ويوم الجمعة الماضي، نُظِّمَت وقفة في ساحة القصبة (مقابل مقر الحكومة) لمساندة جهود الحكومة، رفعت شعار «كلنا يوسف الشاهد» إلى جانب شعارات تحثّ رئيس الحكومة على المضي قدماً في محاسبة الفاسدين.
ومن جانبه، أصدر «الاتحاد العام التونسي للشغل» بياناً، قال فيه إنّ الخطوة «مهمّة وضروريّة رغم تأخرها... وهي خطوة تحتاج إلى أن تذهب إلى أقصاها». ورداً على «انتقائيّة» عمليات الإيقاف، حذّر البيان من «حصر الفساد في بعض المشتبه فيهم للتغطية على جوهر القضيّة»، وشدد على أن كسب ثقة الشعب يتطلب «إجراءات أوسع وأشمل في مقاومة الفساد تهدف إلى تفكيك منظومته ووضع الأسس والقوانين والإجراءات الكفيلة لمنع تشكله من جديد». وفيما إن كانت الخطوة تهدف إلى تخفيف ضغط الاحتجاجات الشعبيّة، دعا الاتحاد إلى «عدم ارتباك الحكومة في تعزيز هذه الخطوة الأولى ومواصلة هذا المسار بعيداً عن الضغوط الظرفيّة».
وعلى غرار «اتحاد الشغل»، عبّرت غالبية أحزاب المعارضة عن مساندتها المبدئيّة للخطوة، داعية إلى توسيعها لتشمل أسماء ومجموعات أخرى تبعد عنها لوثة الانتقائيّة. وفي هذا الصدد، توجهت منظمة «أنا يقظ» بدعوة للشاهد للتحرك بخصوص قائمة تشمل أكثر من 328 اسماً لأشخاص تعلقت بهم تهم فساد قبل الثورة دون أن تُصادر أملاكهم أو تُتخذ في حقهم الإجراءات القانونيّة اللازمة، وذلك حتى لا تبقى حملته «مجرد استعراض فلكلوريّ لامتصاص الغضب الشعبيّ الذي ما فتئ يستشري في أكثر من مدينة». كذلك أشار بيان المنظمة إلى غياب الدعم اللوجستي للهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد وسعي بعض الأحزاب الحاكمة إلى ابتزاز الضالعين في الفساد المالي والإداري وتأجيل الحسم في ملفاتهم.

الفساد أمام أعينكم


في تونس، لا يتطلب الأمر مجهوداً خارقاً لمعرفة أسماء الفاسدين، إذ يكفي الاطلاع على التقارير التي تُصدرها دائرة المحاسبات على نحو دوريّ، والتقرير النهائي الذي أصدرته منذ سنوات اللجنة الوطنيّة لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد الذي يقع في أكثر من 500 صفحة، وهما هيكلان عموميان، لمعرفة أهم مواطن المشكل ومجموعات النهب المنظم.
لكن يختلف المحللون في تحديد أسباب الخلل، فمن ناحية يشير البعض إلى غياب الإرادة السياسيّة لمقاومة الفساد، ومن ناحية ثانية تبرر الجهات الرسمية الخلل بعجز الجهاز القضائي عن البت في الملفات. والواقع أن الإرادة السياسيّة مقتصرة إلى الآن على تتبع مجموعات بعينها، رغم تأكيد كاتب الدولة لأملاك الدولة مبروك كرشيد، على تواصل حملة الإيقافات، في انتظار قانون الإثراء غير المشروع، الذي مررته الحكومة إلى البرلمان لمناقشته، والذي يمثّل إطاراً قانونياً لمقاومة الفساد. أما من الناحية القضائيّة، فيحول نقص الإمكانات دون تحقيق تقدم سريع في البتّ بمئات الملفات، حيث يعمل في القطب القضائي المالي أقل من عشرة قضاة وعدد محدود من المساعدين والإداريين.
في الأثناء، يستمر الضغط الشعبيّ على السلطة من خلال التظاهرات وكشف ملفات فساد جديدة، آخرها ملف مشروع «مارينا قمرت» الذي أثارته شبكة «دستورنا» بالتعاون مع حملة «مانيش مسامح»، والذي تورطت فيه شخصيات من نظام بن علي إلى جانب شركة «الماجدة» القطريّة في تحويل صبغة المشروع من سياحيّ بحت إلى سياحيّ وسكنيّ وجني أموال طائلة من وراء ذلك. وتستمر من جهة ثانية التحركات الاجتماعيّة المطالبة بتوزيع عادل للثروات وتنمية جهويّة متوازنة.