منذ مطلع «انتفاضة القدس»، قدمت مدينة الخليل، (جنوب القدس)، الشهيد تلو الآخر. هذا هو حال معظم المناطق الفلسطينية، لكن الخليل دفعت أغلى الأثمان (ثلث شهداء الهبة الشعبية) رداً على الاعتداءات والإعدامات والإغلاقات التعسفية للطرقات والمداخل المفروضة على سكانها، كما لا تزال الخليل الاسم الأكثر تكرارا عبر وسائل الإعلام العبرية باعتبارها «كرة اللهب» التي لا تنطفئ، ولا يسكتها إغلاق أو حصار أو رصاص.
بعد كل عملية نفذها، وينفذها، المقاومون، تشهد الخليل حصاراً خانقاً ووجوداً كثيفاً لآليات الاحتلال وجنوده، الذين يغلقون الطرق المؤدية إلى المحافظة، إضافة إلى نصب حواجز جديدة ووضع مكعبات إسمنتية وحديدية بين القرى والمدينة، وحتى داخل أحياء القرية نفسها للتضييق على أبنائها.
مثال على ذلك ما حدث منذ ثلاثة أيام في بلدة سعير، شمال الخليل، التي أعلنها الاحتلال منطقة عسكرية مغلقة. فالمكعبات الإسمنتية والبوابات الحديدية وضعها جنود الاحتلال، ولم تغلق المداخل الرئيسية للبلدة فحسب، بل قطعت أوصال البلدة وصار الآتي من الخليل أو ضواحيها يحتاج إلى ساعات بدلا من دقائق للوصول إلى المكان.
أكثر ما يرهب الاحتلال الجنازات المهيبة التي يتميز بها «الخلايلة»

يعلّق محافظ الخليل، كامل حميد، على الإغلاقات وحملات التصعيد، بالقول إن «الاحتلال لا يكترث لحياة الفلسطيين، فهو يستهدفهم بوضوح وعلن، ويسفك دماءهم بالإعدامات الميدانية التي تحدث كل يوم تقريبا»، لافتاً إلى أن العدو يريد من هذه الجرائم جعل العديد من المواقع محظورة على الفلسطينيين، وأن ثمن الاقتراب منها هو الموت. وكنموذج على ذلك، منطقة «عتصيون» ومحيط الحرم الإبراهيمي في قلب مدينة الخليل. ويضيف حميد: «ما تشهده بلدة سعير جزء من هذا الحصار لتثبيط عزيمة ونضال الشباب الفلسطيني».
كذلك يقول رئيس بلدية سعير، كايد جرادات، إن «سعير مستهدفة من قبل الاحتلال خصيصا... رغم إغلاق مداخلها وتشديد الحصار على الداخل والخارج منها فإن ذلك لم يزد شباب البلدة إلا غضباً ونقمة. منطقة بيت عينون مثلاً التابعة لسعير صارت نقطة ملتهبة دائما، وتدور فيها أعنف المواجهات يومياً».
ولعل أكثر ما يرهب الاحتلال الجنازات المهيبة التي يتميز بها «الخلايلة»، وهذا يفسر الشروط التي يضعها لتسليم جثامين الشهداء التي احتجزها، بالإضافة إلى منعه وصول المعزين من المناطق القريبة أو البعيدة وصولاً إلى منع الطواقم الصحافية وسيارات الإسعاف عبر الإغلاقات والحواجز المنتشرة طول الطريق.
مع ذلك، تمكن أهالي سعير من تشييع أبنائهم بجنازات كبيرة بعد تسليم العدو للجثامين ليلاً. منذ يومين، كانت عائلتا الكوازبة والشلالدة بانتظار تسليم جثامين أبنائها على حاجز ترقوميا، وقبل التسليم بدقائق طلب الارتباط العسكري من العائلات التوجه إلى مدخل مستوطنة «حاجاي» بسبب تغيير مكان التسليم، مع العلم أن أهالي الشهداء احتاجوا ما يقارب 45 دقيقة للوصول إلى هناك في ظل أجواء شديدة البرودة وأمطار كثيفة.
يعبّر والد الشهيد مهند الكوازبة عن فخره وحزنه في الوقت نفسه، ويقول: «لقد فقدت ابني وأبناء إخوتي الذين اعتدت رؤيتهم ثلاثتهم معاً. نشعر بالحزن ولكننا نعرف أن الحرية سوف تكلفنا المزيد من الأرواح وسوف ندفع ذلك؛ طالما هناك احتلال سيكون هناك شهداء».
وأضاف الكوازبة: «كنت أشاهد ابني يكبر حتى صار ابن 21 عاما، كان كثير الأحلام والطموحات وكان يحب الحياة، ولكن إسرائيل هي سلطة الاحتلال وهذا ما تقوم به، القتل من أجل القتل».
أما الشهيد الرابع الذي أعدمته قوات الاحتلال بتهمة محاولة طعن، فهو خليل شلالدة (16 عاما)، واستشهد في المنطقة نفسها التي استشهد فيها شقيقه محمد (24 عاما) على يد القاتل نفسه في تشرين الثاني الماضي.
يقول فهيم شلالدة، والد الشهيدين خليل ومحمد، إن «ما فعله ابني هو رد الفعل الطبيعي، فقد تأثر كثيراً باستشهاد أخيه، وكرر دائماً: أنا مش أحسن من شباب البلد!». ووصف الوالد أبناءه بالمناضلين كما غيرهم من أبناء فلسطين، وتابع: «هذا الغضب تفجر بعد ما كان يحدث في الخليل عامة وسعير خاصة؛ ولعل إغلاق المنطقة، وشل حركة المواطنين فاقم الوضع أكثر، الشباب دمهم حامي».
ويذكر بعض الشباب أن مقبرة البلدة في سعير امتلأت بعد دفعة الشهداء الأخيرة، ما دفع الأهالي إلى استحداث مقبرة جديدة.
إلى ذلك، استلم الهلال الأحمر الفلسطيني أمس، جثمان الشهيد مصطفى الخطيب الذي كانت سلطات الاحتلال تحتجز جثمانه منذ 3 أشهر. وقال والد الشهيد بعد وصول جثمان ابنه إلى مجمع فلسطين الطبي في رام الله إن ولده لن يدفن ليلاً بل سيدفن اليوم في قريته البيرة.