ساد الإضراب العام، ما بين شامل وجزئي، غالبية مدن الضفة والأراضي المحتلة عام 1948 بجانب القدس يوم أمس، وذلك بالتوازي مع إضراب مئات الأسرى الفلسطينيين عن الطعام. الإضراب العام الذي جاء (متأخراً) في اليوم السادس والثلاثين من إضراب الأسرى، هو أحد وجوه الاحتجاج الشعبي الذي ميّز الانتفاضة الأولى 1987 وبدايات الثانية 2000، لكنه غاب عن «انتفاضة القدس» الجارية وتباعاً إضراب الأسرى الجاري.
وبينما لم يشمل إضراب أمس قطاع غزة، فإنه بصورة أو بأخرى يكشف عن غياب قيادة فلسطينية تستثمر الحدث، ميدانياً وسياسياً، بما ينتهي بوزن يحسب له حساب في معادلات العدو الإسرائيلي. غياب القيادة، إضافة إلى ضعف التضامن، وبقاء العمليات الفردية على حالها، مثلت كما يرى مراقبون جزءاً من العوامل التي أعطت الإسرائيليين مساحة من المناورة في التعاطي مع إضراب الأسرى الجاري، بل قمعه والأمل الكبير في إنهائه، على أن ينهي ذلك هذه الظاهرة بصورتها الجماعية والفردية.
وحالياً، ثمة حقل من «الألغام» يواجه إضراب الأسرى. إحدى المشكلات «التكتيكية» أن اختيار التوقيت للبدء من 17 نيسان (يوم الأسير الفلسطيني) كمنطلق رمزي ومعنوي للإضراب، صادفه قرب شهر رمضان ــ هذه السنة ــ الذي يبدأ بعد أقل من أسبوع، وهو (رمضان) ما يراهن عليه الإسرائيليون كي ينهي الإضراب نفسه بنفسه. يقول بعض الأسرى إن إدارة السجون تسير ضمن تصوّر مبني على أن الصوم والإفطار الإلزامي (حتى لو كان إفطاراً رمزياً) يعني أن الإضراب سيفقد قيمته الفعلية والرمزية.

يعلم المضربون
منذ اليوم الأول
لنضالهم أنهم دخلوا طريق اللارجعة

وبما أن الإضرابات الجماعية السابقة لم يكن أقصاها يتعدى 31 يوماً، وقد وصل الإضراب الجاري إلى 37 يوماً، فإن ثمة تخوفاً من صعوبة إجبار العدو على التفاوض وتحقيق غالبية المطالب قبل بدء رمضان، إلا في حال ورد تقدير إسرائيلي يفيد بأن شهر الصوم مقدمة لدخول بقية الأسرى في الإضراب، وزيادة وتيرة التضامن خارج السجون.
المشكلة الثانية، يضيف الأسرى، تنبع من أن مجموع المضربين لا يتعدى الخُمس من مجمل 6500 أسير «تقريباً»، وباستثناء فئات عدة لا تطلب منها القيادة داخل السجون الإضراب (مثل كبار السن والنساء والأطفال والمرضى والمصابين)، فإن غياب التفاهم الفصائلي وإقرار التنظيمات كافة في السجون خوض المعركة معاً (عدا المشاركة الرمزية من قيادة الحركة الأسيرة)، يجعل مجموع المضربين لا يتعدى عملياً ثلث الأسرى، وذلك رغم دخول عشرات الأسرى تباعاً في الإضراب، وأيضاً رغم أن توزّع المضربين على غالبية السجون يجعلها مشاركة كلّها في الإضراب.
مع ذلك، تبقى قضيتا التوقيت وعدد المضربين «ثانوية» أمام المشكلة الأساسية، وهي التعاطي الإسرائيلي مع موضوع الإضراب على أنه «مشكلة داخلية في حركة فتح» والترويج له على ذلك، وأن حل الإضراب يبدأ من هذا التعريف، لا من كون دوافعه إنسانية وحقوقية. حتى في حال أعطت إسرائيل شيئاً من هذه الحقوق، فإن تاريخ السجون يفيد بأنه لن تمر سنتان في أحسن الأحوال، إلا وتعاود مصلحة السجون نزع هذه المطالب تدريجياً، ثم إضراب جماعي مستقبلاً، لكن هذا لا يعني في قاموس الأسرى السكوت عن الوضع القائم.
جراء ذلك، يتبدّى التعنت الإسرائيلي، أولاً لكسر شوكة الأسرى وتدمير نموذج المقاومة بالإضراب، وثانياً لإدخال قضيتهم في المماحكات السياسية الفلسطينية الداخلية، التي تقتل بدورها العمل الوطني في مهده. لذا، قد تأتي مشاركة السلطة، ممثلة في مدير جهاز «المخابرات» ماجد فرج، ومدير «الشؤون المدنية» حسين الشيخ، ومدير جهاز «الأمن الوقائي» زياد هب الريح، في مفاوضات مع الجانب الإسرائيلي تخص إضراب الأسرى، لترسّخ بطريقة أو بأخرى ما سعت إسرائيل إلى قوله: الإضراب الذي يقوده مروان البرغوثي هو جزء من مشكلة داخل «فتح»، ونحن نحلها مع «فتح» ــ السلطة لا مع البرغوثي، فضلاً عن التشديد المتواصل على ضرورة «ضبط الضفة» ومنع الوضع من الانزلاق إلى مواجهة.
وبينما شاع حديث عن نية السلطة نزع خيمة التضامن التي يقيمها أهالي الأسرى في كنيسة المهد في بيت لحم بسبب زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى هناك، عادت الحكومة في رام الله ونفت أمس صدور تعميم عنها إلى قوات الأمن «يحضّ على وقف الفعاليات الخاصة بالأسرى في محافظتي بيت لحم ورام الله». وإن كان ذلك صحيحاً، فإنه لا ينفي أن السلطة ليس لديها نية في تحوّل الحدث (الإضراب) إلى مشهد من المواجهات، تحت ذريعة الحفاظ على الهدوء الذي يخدم المواطن الفلسطيني بدوره!
هذا من جانب رام الله. أما في غزة، وعلى صعيد حركة «حماس» تحديداً، فبقصد أو من دون قصد، أدّت الأحداث المتلاحقة (وثيقة «حماس» السياسية الجديدة ــ خطاب خالد مشعل للإدارة الأميركية ــ انتخاب إسماعيل هنية رئيساً للمكتب السياسي للحركة ــ كشف قتلة الشهيد مازن فقها ومجريات محاكمتهم) إلى التشويش على إضراب الأسرى، بدءاً من الداخل الفلسطيني حتى الإقليم العربي، شعبياً وإعلامياً، خاصة أن عدداً منها، كقضية الوثيقة، كان يمكن تأجيلها إلى ما بعد الإضراب.
وبانتظار «الكلمة المهمة» لهنية التي وعدت بها «حماس» بعد غد الخميس، فإن العدو الإسرائيلي لم يعقّب ــ رسمياً على الأقل ــ على تهديدات المقاومة الفلسطينية (الصادرة من «حماس» و«الجهاد الإسلامي» في الأسبوعين الماضيين) بشأن إضراب الأسرى، خاصة أن سياسة إدارة السجون تقوم على التجنّب، قدر الإمكان، أن «يسقط شهداء» خلال الإضراب، حتى لا تقدم مبرراً ــ كما ترى ــ للمقاومة أو الانتفاضة الشعبية.
ويوم أمس، أفادت «اللجنة الإعلامية لإضراب الحرية والكرامة» بأن إدارة سجن عسقلان قررت نقل الأسرى المضربين داخل السجن إلى المستشفيات خلال ساعات بعد تدهور حالتهم الصحية، وكذلك الحال في سجون أخرى أقامت احتياطات لهذا الجانب. وهذا لا يعني بأي حال حرصاً إسرائيلياً على أرواح الأسرى التي يأكلها السجن، بل هو مواصلة في سياسة التعذيب تحت معادلة حدودها: لا استجابة فورية للمطالب، ولا استجابة كلية إلا بعد الإنهاك الشديد، ولا موت حتى يكمل الأسير محكوميته.
في المحصلة، يتبيّن أن هذا الإضراب «اليتيم» لم ترافقه ظروف ضاغطة فعلياً على إسرائيل للتجاوب مع مطالب الأسرى، خاصة مع رفع المضربين سقف مطالبهم نتيجة التجارب التي تفيد بأن على الأسير طلب أعلى ما يمكن ليحصل على ما يريد.
نتيجة ذلك، قالت «لجنة المتابعة والإسناد لإضراب الكرامة»، أمس، إنها لم تصل إلى حل مع مصلحة السجون لفك الإضراب، وإن كل ما تم الإعلان عنه بشأن مفاوضات وقرب التوصل إلى حل إنما هو «خداع وتضليل» للشارع الفلسطيني من أجل تمرير زيارة ترامب من دون احتجاجات.
وأضافت اللجنة أن «الأسرى يزدادون عناداً بالقدر نفسه الذي تتعنّت به معهم إدارة السجون، لكنهم بحاجة إلى المزيد من الضغط في الخارج»، وذلك لأنهم يعلمون منذ اللحظة الأولى أنهم دخلوا في طريق اللارجعة، وأن انكسارهم يعني نزع أهم سلاح يمتلكونه (الإضراب)، في حين أن حصولهم على أقل ما يتوقعون من مطالب يعني انتصار إدارة السجون عليهم.