منذ تولّي ولي ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، مناصبه الرسمية في الحكم، دأبت شركات العلاقات العامّة و«بناء الصورة» التي وظّفها على الترويج لشخصه ونشاطاته و«إنجازاته». اللافت، أن الصحافيين الغربيين يعرفون جيداً أن كلّ اتصال يردهم من مكتب ابن سلمان (31 سنة)، وكلّ زيارة منظمة لهم إلى المملكة، هي جزء من خطط تلك الشركات التسويقية. رغم ذلك، يسارعون، كلّ مرّة، إلى تلبية ما يطلبه منهم حكّام أحد أبرز الأنظمة الديكتاتورية في العالم! كما أن ما يفعله أولئك المراسلون لا يمتّ للحشرية الصحافية بصلة.
العائدون من الرياض، من إعلاميين أميركيين وفرنسيين، يكتفون دائماً بـ«البرنامج» الذي يحدّده لهم أصحاب الدعوة السعوديون وبالكلام المعَدّ مسبقاً، ولا أحد منهم يتذمّر أو يلمّح حتى في مقالته إلى أي ضيق شعر به خلال الزيارة. في العادة، يشكو الصحافيون «العجز عن التحرّك بحرية وفعل عملنا كما يجب» خلال الزيارات المنظّمة من بعض الحكومات. لكن لا انزعاج يُذكر في تقارير الزيارات إلى السعودية، وكلّ شيء يبدو على ما يرام في ضيافة «النظام الوهّابي»!

شركات «تلميع الصورة» نجحت في جعل كلّ ما يفعله «مدهشاً»

هل طلب مرّة أحد الصحافيين الزائرين (أو تجرّأ على طلب) زيارة ميدانية إلى الحدود السعودية ـــ اليمنية حيث تدور الحرب المنسيّة؟ هل تمكّن الصحافيون من التحدّث إلى الناس في الشارع لسؤالهم عن أحوالهم؟ هل حاولوا مقابلة إحدى الناشطات اللواتي يخاطرن بأرواحهنّ لاكتساب أبسط الحقوق الإنسانية؟ أو: هل سُمح لهم بسؤال مضيفيهم عن بعض تلك الأمور الأساسية؟ لا شيء في مقالات العائدين من الرياض يوحي بذلك، والمادة الصحافية الأخيرة اكتفت طوال العامين الماضيين بنقل كلام لبن سلمان والتغزّل بـ«لغة جسده الواثقة» وابتسامته العريضة والكاريزما الساحرة... حتى تفوّقت بعض الأقلام الغربية على كتّاب البلاط السعوديين أنفسهم!
قبل نحو عام، أطلق ابن سلمان خطّة اقتصادية ـــ اجتماعية ترسم مستقبل المملكة حتى عام ٢٠٣٠ الخطة من إعداد شركة «ماكينزي» الأميركية الشهيرة التي تضطلع بمثل تلك المهمات، إذ يتعذّر على الحكّام التفكير بأنفسهم في كيفية إدارة شؤون بلادهم. آنذاك، نشرت بعض المؤسسات الإعلامية الغربية مقالات معدودة انتقدت الخطة، ولا سيما تجنبها تغيير النظام التعليمي والمناهج (أساس تطوير المجتمع)، مع غموض المقترحات في ما خصّ «انتهاج الاعتدال الديني»، وتقصيرها في الاستجابة للحاجات الاجتماعية الأساسية، ولا سيما حقوق المرأة.
في المقابل، امتلأت صفحات أبرز الصحف والمجلّات الأميركية والفرنسية بمقالات تبجيلية بـ«الرؤية» وبصاحبها. ففي «فورين أفيرز» الأميركية مثلاً، استهلّ بلال صعب مقالته
بوصف الأمير بعد لقاء معه قائلاً: «سيطرته على المواضيع كانت صلبة، لغة جسده تشير إلى الثقة رغم أنه كان الأصغر سنّاً والأقلّ خبرة بين الموجودين في الغرفة. لديه كاريزما، والأهمّ أنه يحمل قضية بلاده أقوى مما فعل أي مسؤول سعودي قبله». بعد الانبهار، يتابع صعب «من الصعب ألا نقدّر ونُعجَب بإصرار MBS م. ب. س. (محمد بن سلمان) كما يسمّونه في واشنطن، على حلّ أصعب مشكلات بلاده في بداية حياته السياسية».
ثمة معجب آخر للأمير في صحيفة «لي (ز) إيكو» الفرنسية، إذ وصف أدريان لولييفر ابن سلمان بـ«نجم آل سعود الصاعد»، وكتب: «نجاح باهر بعد نجاح. لم يلزم الأمير أكثر من بضعة أشهر ليصبح الرمز القائد للمملكة»، وتابع: «كلّ شيء حوله مدهش. بدءاً بعمره اليافع، وما يقال عنه إنه يعمل بكدّ ولديه تصميم وطاقة كبيران. حتى إن بعض كبار السنّ يشبّهونه بابن سعود».
أما ديفيد إغناتيوس، في «ذي واشنطن بوست» الأميركية، المتردد على الرياض منذ سنوات طويلة، فرأى أن ابن سلمان هو «قائد بالفطرة»، وأن «من الصعب ألا تشجّع قائداً شاباً يريد تغيير بلاده التي تكبّلها الأصولية الدينية منذ أجيال عدّة».
إغناتيوس نقل «بتجرّد» غير بريء عن ابن سلمان قوله، إن «للنظام الديكتاتوري إيجابيات في ما يتعلّق بسرعة اتخاذ القرارات. ففي الملَكية المطلقة، يمكننا أن نحدث تغييراً بخطوة واحدة، الأمر الذي قد يحتاج إلى عشر خطوات في الديموقراطيات». لكن لم يجرؤ إغناتيوس على وضع علامة تعجّب بعد نقل العبارة الفضيحة التي تمسّ إحدى «المقدّسات» الأميركية، إنما مرّ تصريح ابن سلمان عن «إيجابيات الديكتاتورية» الذي أُطلق من الأراضي الأميركية ولم يلطم الإعلام هناك، ولم تُبتكر الهاشتاغات المستنكرة، ولم تسخر البرامج الفكاهية ولم يوضع «الأمير» إعلامياً في خانة الأشرار.
شركات «تلميع الصورة» والتواصل المحيطة بابن سلمان نجحت بجعل كلّ ما يفعله «مدهشاً» لا صادماً، و«شجاعاً» لا متهوّراً و«تاريخياً»، كلقائه الرئيس الأميركي دونالد ترامب؛ ما هو «المنعطف التاريخي» في لقاء أمير سعودي برئيس أميركي؟ تبنّت معظم وسائل الإعلام الغربية ما عمّمته الماكينة الدعائية لابن سلمان، فيما سأل البعض بخجل عن أمور نافرة تشوب «إنجازات الأمير». ماذا عن فشل تدابير التقشّف التي فرضها على السعوديين منذ تسلّمه منصبه ونقمة موظفي القطاع العام (أكثر من ثلثي السعوديين) الذين حُرموا مخصصاتهم وانتُقص من معاشاتهم؟ ألم يخطر ببال أي من الصحافيين أن يشيروا إلى مخصصات العائلة المالكة المهولة؟ أو، ماذا عن قيادة «الأمير الشجاع» حرب اليمن المتوحشة والباهظة الكلفة؟ ماذا عن إعلان ابن سلمان أن «الوقت ليس مناسباً لرفع حظر قيادة السيارات عن النساء السعوديات»؟
لا يجيب أي من زوّار البلاط الغربيين عن تلك الأسئلة التي لم يطرحوها أصلاً، في حين أن مقالاتهم تصرّ على إبراز نسب التأييد العالية لسياسات ابن سلمان بأرقام صادرة عن «مركز إحصاءات حكومي»، وعلى تحجيم الحرب الأميركية ـــ السعودية ضد اليمنيين بجعلها مجرّد «حرب ضد متمردين حوثيين مدعومين من إيران». بعض الصحافيين الغربيين بدوا ولا يزالون مقتنعين ومتفائلين بكلّ ما روّج عن خطة ابن سلمان المستقبلية. هلا قضماني في تحليلها في صحيفة «ليبيراسيون» الفرنسية، مثلاً، وصفت استثمار الأمير في شركة «أوبر» الأميركية لطلب سيارات الأجرة إلكترونياً بـ«الحلّ الخلّاق» لمشكلة منع السعوديات من قيادة السيارات». عاد إغناتيوس أيضاً وأبدى إعجابه بتفاصيل «الرؤية المستقبلية» وبإنشاء «الهيئة العامة للترفيه»، قائلاً إنه إنجاز مهم، مخبراً قرّاءه أن أحد أبرز مشاريع الهيئة هو إنشاء «متحف للبوظة» كالموجود في نيويورك حالياً!