لفت ملفّ «الجمعيّات الخيريّة» الانتباه في آذار الماضي مع صدور قرارات متضاربة تخصّ اثنتين من كبريات الجمعيات العاملة في حلب. رحلة البحث في هذا الملف اصطدمت بعقبات عدّة، على رأسها رفض معظم المصادر التي تواصلت معها «الأخبار» الخوضَ فيه، وحتى حين قبل بعضها كان شرط «التعتيم على المصدر» أساسيّاً. ويكتسب هذا التفصيل أهميّة خاصة، نظراً إلى أنّ الرابط المشترك بين معظم المصادر كان الهلع! اثنان من المصادر الخمسة التي جُمعت تفاصيل هذا الملف عبرها كرّرا جملةً واحدة: «الحكي بهالموضوع ممكن يطيّر روس»!
قرارات متضاربة

بتاريخ 23 آذار الماضي صدر قرار إقصاء جمعيتي «الإحسان» و«التآلف» عن قائمة الجمعيات المسموح لها بعقد شراكات مع المنظمات الدولية. وزارة الخارجية والمغتربين خاطبت مكتب المنسّق المقيم لأنشطة الأمم المتحدة في دمشق بموجب مذكرة حملت الرقم 1147 التي حملت صفة «فوري»، وطلبت شطب الجمعيتين المذكورتين من القائمة. قبلها بيوم خاطبت «الخارجية» وزارة الشؤون الاجتماعيّة والعمل بموجب البرقية رقم 3215، طالبةً «إلغاء كافة الموافقات والتراخيص الممنوحة لهما للتعاون مع الجهات العامة أو المنظمات الدولية العاملة في سوريا»، وذلك بسبب «قيامهما بأنشطة غير قانونية وارتكابهما جملة من المخالفات». خاطبت وزارة الشؤون مديريتها في حلب بكتاب فوريّ حمل الرقم 167(5/173) وجّهت فيه بـ«وقف وإنهاء تعاون الجمعيتين المذكورتين مع المنظمات الدوليّة والجهات العامّة»، وقالت إنها «تعمل بالتنسيق مع الخارجية لوضع المقترحات اللازمة بما يخصّ المشاريع قيد التنفيذ، حرصاً على مصالح المستفيدين (المواطنين)». لكن، وبتاريخ 24 آذار، عادت الوزارة لمخاطبة «مكتب المنسق المقيم لأنشطة الأمم المتحدة» بكتاب فوري حمل الرقم 1191 وطلب استثناء جمعية «الإحسان» من الشطب بسبب «وقوع تشابه أسماء». ومجدّداً عاودت الخارجيّة مخاطبة «مكتب المنسق» بتاريخ 2 نيسان بمذكرة فوريّة حملت الرقم 1270، وطلبت فيه اعتبار المذكرة 1191 لاغية، وتثبيت شطب جمعية «الإحسان» من القائمة!

التنفيذ «المستحيل»؟

مع حسم الأمور لمصلحة قرار إيقاف الجمعيتين، صار لزاماً الخوض في تفاصيل كثيرة: ما هي آليات تنفيذ القرارين؟ ما مصير المشاريع التي مُوّلت من المنظمات الدولية سابقاً للقرار وتعمل الجمعيتان عليهما (مثل توزيع الخبز، السلل الغذائيّة، العمليات الجراحيّة...)، ما مصير الموظّفين المتعاقدين مع الجمعيتين؟ وما مآل المكاتب والمقار والمستودعات المملوءة والموجودات العينيّة (مثل الأجهزة الطبيّة)؟ ثم، هل هناك آليات تفتيش ومحاسبة ستطبق طالما أن الإيقاف جاء على خلفية «أنشطة غير قانونية»؟
تم تشكيل لجنة على مستوى محافظة حلب لتنفيذ قرار الإيقاف ضمّت عضو المكتب التنفيذي المسؤول عن الجمعيات (د. حميد كنّو) إضافة إلى ممثل عن مديرية الشؤون الاجتماعية، وممثل عن مديرية الصحة (بسبب وجود مشاريع طبية لدى الجمعيتين). عقدت اللجنة اجتماعاً بحضور رئيس مجلس إدارة فرع الهلال الأحمر في حلب (د. وليد سنكري) وممثل عن الأمانة السورية للتنمية.

صدرت قرارات متضاربة تخصّ اثنتين من كبريات الجمعيات العاملة في حلب
وطُرحت خلال الاجتماع فكرة تقسيم مشاريع الجمعيتين بين الهلال الأحمر والأمانة السورية. يقول أحد المصادر إنّ «ممثل الأمانة قال إنه سينقل المقترح لتدرسه الأمانة وتقترح آليات تنفيذ، لكنّها لم تقدم أي مقترح لاحقاً»، فيما قالت مصادر أخرى إنه «تم تشكيل لجنة لبحث آلية التسليم والتسلم بين الأمانة والجمعيتين بموجب محضر رسمي، لكن الأمانة عادت وقالت إنه يتعذر تنفيذ ذلك بسبب ضخامة مشاريع الجمعيتين وتشعبها، وأوصت باستمرار عمل الجمعيتين تحت إشراف الهلال الأحمر».

«الهلال» المنقذ؟ أم المهيمن؟

اقترح فرع الهلال الأحمر في حلب أن يقوم بالإشراف على عمل جمعية «الإحسان»، بحيث يبرم اتفاقيات الشراكة مع المنظمات الدولية ويتسلم التمويل، ثم يقوم بدوره بتمويل مشاريع «الإحسان». وقال رئيس مجلس إدارة فرع حلب إنه مستعد للحصول على الموافقات اللازمة لضمان إقرار هذا المقترح. يتطابق كلام مصدرين اثنين (كل على حدة) حول نقطة مفادها أنّ «فرع الهلال في حلب قال لأعضاء لجنة التنفيذ إنّ لديه «توجيهات من فوق» بالإشراف على عمل الإحسان (موحياً بأنها توجيهات من أعلى سلطة في الدولة)». (يشير عدد من المصادر إلى «ملابسات تشي بطموحات لدى فرع الهلال في حلب للهيمنة على ملف التشاركيّة مع المنظمات الدولية تدريجيّاً»).
كانت جمعيّة التآلف قد اتخذت قراراً بتنفيذ القرار الصادر بحقّها؛ أوقفت جميع مشاريعها أصولاً، وأجرت انفكاكاً رسميّاً لحوالى 450 موظفاً، وأغلقت كامل فعالياتها (من بين أنشطتها التي أوقفتها توزيع 16000 حصة غذائية شهرياً، 14500 ربطة خبز شهرياً... إلخ)، بينما واصلت «الإحسان» العمل وكأن شيئاً لم يكن، وأوقفت فقط مشاريع العمليات الجراحية وتوزيع الأدوية «بسبب تأخر المنظمات في التمويل»، وفقاً لمصادر «الأخبار». وتقول مصادر مرتبطة بـ«الإحسان» إنّها «وضعت أموالها تحت تصرف الهلال ليقوم الأخير بتزويدها باحتياجاتها أولاً بأول». تعزو المصادر هذا الإجراء إلى أنّ نقل المشاريع رسميّاً إلى عهدة الهلال يستدعي «تعديل كل العقود المبرمة، وإزالة اسم الجمعية عن العقود والمقار والسيارات، إلخ». لكن ألا يعتبر هذا التفافاً على القرار؟ نسأل مصدراً من داخل الجمعيّة، فيرد بالحديث عن «مصالح المواطنين». أخيراً، خاطبت وزارة الخارجية «مكتب المنسق المقيم» قبل أيام بكتاب حمل صفة «عاجل» والرقم 1739. وهدف الكتاب إلى «إعلام مكتب المنسق بقرار الحكومة السورية القاضي باختيارها منظمة الهلال الأحمر لمتابعة المشاريع التي أبرمتها الجمعيتان (...)»

حديث المليارات

بقيت الحسابات البنكية لـ«الإحسان» مفتوحة. وتفيد وثائق اطّلعت عليها «الأخبار» بأن الميزانية لعام 2017 قاربت حاجز 8 مليارات ليرة (حوالى 16 مليون دولار)، وكان في صندوقها وقت صدور القرار ما يقارب 3.6 مليارات ليرة (أكثر من 7 ملايين دولار)، بينما ترد مصادر«الإحسان» بأن هذه الميزانية لا تعني «الكاش فقط»، بل «تشتمل على الموجودات العينيّة»؛ فهي مثلاً «توزع كل شهر 15 ألف حصة غذائيّة، قيمة الحصة 70 دولاراً». وتؤكّد المصادر أن «صرفياتها تخضع لتدقيق من قبل شركات محاسبة قانونيّة»، وهذه الشركات هي شركات قطاع خاص بطبيعة الحال، وثمة من يطعن بـ«طرائق عملها ونزاهتها». ليست «الإحسان» استثناءً في موضوع المليارات، فميزانيّة الهلال الأحمر من التشاركيّات لعام 2017 مثلا حوالى 30 مليار ليرة (أكثر من 60 مليون دولار، من دون حساب ميزانية «الإحسان» التي يفترض أنها باتت تحت إشرافه في إجراء «إنقاذي»). أما «التآلف» فحوالى سبعة مليارات ليرة (قرابة 14 مليون دولار)، فيما لم يتسنّ لـ«الأخبار» الحصول على معلومات حول موازنات بقية الجمعيات العاملة في قطاع التشاركية بحلب حتى الآن.

«خيار وفقوس»؟

في خلال متابعة «الأخبار» للملف، تحدثّت مصادر عن «اعتبارات غامضة تتحكم في منح الموافقات للجمعيات التي تطلب السماح لها بإجراء شراكات مع منظمات دولية». المصادر أشارت إلى أن هذا الأمر «ليس جديداً بل ساد منذ البدء بتنظيم عمليات التشاركية وفق قائمة الخارجية»، (ما يعني أنّه سابق على تولّي الوزيرة الحالية لمنصبها)، فيما سُجّلت أخيراً حالة لجمعيّة تحاول الحصول على موافقة لإدراجها على القائمة، لكنها تعرّضت لعراقيل متتالية، وهي «جمعيّة أهالي حلب» المُشهرة في حزيران 2014. وتسعى الجمعية منذ ما يزيد على سبعة أشهر للظفر بالموافقة، لكنها اصطدمت حتى الآن بعراقيل روتينية في ظاهرها لم تفضِ حتى الآن سوى إلى دوامة متداخلة من المراسلات بينها وبين وزارة الشؤون الاجتماعية، عبر مديريتها في حلب، تضمنت في بعض الأحيان تكراراً للطلبات ذاتها.


«طاسة ضايعة»

كان عدد الجمعيات المرخّصة في حلب 84 جمعية (53 جمعية خيرية والباقي منوّع بين اجتماعية وثقافية). تقلص العدد في ظل الأزمة إلى 28 جمعيّة، من بينها 16 جمعية مدرجة على لوائح وزارة الخارجية (يحق لها عقد شراكات مع منظمات دولية). أمّا الجمعيات التي عقدت شراكات فعلية فـ12 جمعيّة. بغية تنظيم الشراكات، أصدرت وزارة الشؤون الاجتماعية قراراً يمنع التواصل المباشر مع المنظمات، بل عبر مديرية الشؤون الاجتماعية في كل محافظة. أما على أرض الواقع، فيجري العمل على النحو الآتي: توقّع العقود بين المنظمات الدولية ورئيس الجمعية بشكل مباشر. ترسل المنظمة الدولية نسخة عن العقد إلى وزارة الخارجية، فتقوم الأخيرة بإرسال نسخة إلى وزارة الشؤون الاجتماعية التي تصادق على العقد وترسل نسخة إلى الوزارة المعنية (حسب طبيعة المشروع: طبي إلى الصحة، تعليمي إلى التربية، إلخ...). نظريّاً، يجب أن ترسل الوزارة نسخةً إلى مديرية الشؤون في المحافظة، لكن هناك حالات كثيرة لعقود لم تعلم بها المديرية (رغم أنها نظريّاً معنية بالإشراف على كل الجمعيات ومراقبة أعمالها!). ومن دون طائل، حاولت «الأخبار» الحصول على إجابة شافية عن سؤال محدّد «هل كان هناك دور فعلي لمديرية الشؤون في حلب في الإشراف وفق القانون على عمل الجمعيات ومراقبة قانونية قرارتها؟». ثمة مؤشرات كثيرة تقول بعدم وجود أي نوع من الإشراف والمتابعة، وقد شكلت الظروف الأمنية التي مرّت بها حلب شمّاعة صالحة لتعليق كثير من التجاوزات، وأبرزها عدم الدعوة إلى عقد الهيئات العامة للجمعيات سنويّاً (كما تنص القوانين)، مع ما يعنيه ذلك من عدم إجراء مصادقات على الميزانيات العامة، أو انتخاب أعضاء مجالس إدارات... إلخ.




ألو يا وزارة: «المستفيدون» يدفعون الثمن!

حين صدر قرار الإيقاف، أكدت الوزارة المعنيّة أنّها في صدد البحث عن آليات تنفيذه من دون الإضرار بمستحقّي الدعم من المواطنين، لكن هؤلاء كالعادة هم «الحلقة الأضعف». ووفقاً لسير الملف حتى الآن، فقد لحقت بهم أضرار هائلة. وعلى سبيل المثال، توقّف توزيع حوالى 15 ألف ربطة خبز شهرياً، وتوقفت مشاريع تمويل العمليات الجراحية من قبل الجمعيتين، إضافة إلى عمليات غسل الكلى مجاناً، ومثلها عشرات المشاريع التي يستفيد منها مئات الآلاف. سعت «الأخبار» إلى طرح عدد من الأسئلة والاستفسارات على وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل ريما القادري (الصورة)، حول تفاصيل الملف وآليات المحاسبة (إن وجدت)، لكنّ الاتصالات الهاتفية المتتالية لم تُفلح في الوصول إلى نتيجة، أوّل الأمر بسبب سفر الوزيرة إلى إيران، وتالياً بسبب وجودها في حمص، ثم بسبب وجودها في اجتماع (حسب ردود موظفي مكتبها دائماً). وفي آخر اتصال، استفسرت إحدى الموظفات عن الموضوع الذي نودّ الخوض فيه مع الوزيرة، ومع تبيانه من قبلها أجابت «ما بعرف إذا رح تقبل تحكي فيه»، قبل أن تطلب منّا انتظار اتصال من الوزارة في وقت قريب، ولم يأت الاتصال رغم مرور أحد عشر يوماً.