في خضم الأزمة المتناسلة التي تعصف بالعالم العربي، ووسط مخاطر التقسيم التي تتهدد غير دولة من دوله، تتكاثر الدعوات إلى تكريس الوحدات المتقاتلة في ما بينها في هذا العالم، بدعوى أن «إتاحة الطلاق باتت شرط إبعاد القاتل من المقتول»، وأن خطابة رفض «تفتيت المفتت» أضحت «لا تطعم خبزاً» ولا توقف خراباً.
لكن هل يُعتبر حقاً اللجوء إلى «الطلاقات المكلفة والصعبة»، كما يسميها هؤلاء، بمثابة عصا سحرية ستوقف شلالات الدماء في سوريا وليبيا واليمن والعراق وغيرها، وستفسح المجال لإعادة إعلاء صوت السياسة على حساب العنف؟ في الإجابة عن ذلك التساؤل، تطرق الذهن مباشرة صور 3 بقع تعيش اليوم اضطرابات سياسية وتوترات أمنية وأزمات اقتصادية تنذر بسيناريوهات أشد خطورة مما هو حاصل الآن: جنوب السودان الذي يشهد اقتتالاً دموياً يتهدد الدولة الوليدة بالتجزيء على أساس عرقي، وإقليم كردستان الذي يمور بانقسامات تعيد إحياء شبح «الحرب الأهلية» التي اندلعت في التسعينيات، وجنوب اليمن الذي تخترقه من أقصاه إلى أقصاه دعوات انفصالية مناطقية تجعل كابوس الثمانينيات أقرب إلى التحقق، وبصورة أبشع من حرب «الطغمة» و«الزمرة»


لم يكن انفصال جنوب السودان خياراً لا مناص منه لوقف حرب أهلية طاحنة استمرت عشرات السنين بين الشطرين الشمالي والجنوبي. كان يمكن إيجاد حلول لصراع «المركز» و«الأطراف» في السودان، أو قُل «الاختلاف» بين عرب مسلمين وبين أعراق غير مسلمة، لو توفرت إرادة داخلية جادة لإرساء التجانس وتقسيم السلطة والثروة بشكل عادل. لكن غياب هذه الإرادة على مستوى الداخل، والدفع الخارجي، خصوصاً الأميركي والإسرائيلي لمصالح لم تعد خافية، باتجاه الانفصال، فضلاً عن الموقف العربي الهش وأحياناً المتواطئ... كل تلك العوامل جعلت التقسيم أمراً واقعاً سرعان ما تم فرضه باتفاقية «نيفاشا» تحت لافتة «حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان».

يحاول مسعود البرزاني
تكريس رؤيته بأن الحدود
الجديدة ستُرسّم بالدم

حسناً، وقع الاستفتاء وانفصل الجنوب في تموز من عام 2011، لكن ما الذي حدث؟ علاوة على حرمان السودان من 75% من الثروة النفطية، والتأسيس لحروب متناسلة لا تنتهي عن طريق تشجيع «أطراف» أخرى في دارفور وكردفان وجنوب النيل الأزرق على مواصلة القتال لـ«رفع المظالم التاريخية»، تم استيلاد شبه دولة سُمّيت «جنوب السودان». «دولة» لا تمتلك أي منافذ بحرية ولا حتى بنية تحتية من خطوط أنانيب ووسائل نقل نهري وموانئ، ما أبقاها معتمدة في تصدير إنتاجها على الشمال، إلى جانب اللجوء لدول مجاورة ككينيا.
الأهم أن القوى النافذة في هذه الدولة، والتي قاتلت لسنوات من أجل تحقيق الانفصال، ما تزال تعيش عصر القبليات والأساطير. من ذلك، على سبيل المثال، ما يؤمن به زعيم المعارضة الحالية، رياك مشار، من أسطورة قبلية تعتبره حاملاً لمواصفات الرجل الذي سيحكم الجنوب وينقذه من حمامات الدماء. عاملا الضعف هذان، إلى جانب عوامل أخرى يتقدمها نهم الاستئثار بالسلطة الذي أظهره الرئيس سلفاكير ميارديت، دفعا جنوب السودان سريعاً، وفي زمن قياسي، إلى الوقوع في شراك حرب أهلية تُمثل طرفيها الرئيسين قبيلة «الدينكا»، التي ينتمي إليها ميارديت، وقبيلة «النوير»، التي يتحدر منها نائبه المقال، رياك مشار.
لا تزال الحرب، حتى اليوم، عصية على الحلول، على الرغم من التوصل إلى اتفاقية سلام في آب 2015، بل باتت تهدد «الدويلة» المنفصلة بتقسيم جديد على أساس عرقي، بدأ الحديث يدور عنه بقوة (حذر نائب الرئيس الحالي، جيمس واني إيقا، أوائل نيسان، من أن استمرار الحرب قد يقود إلى تقسيم البلاد). إنسانياً، تحدق المجاعة، الأولى في العالم منذ 6 سنوات، بـ5 ملايين شخص من أصل 11 مليوناً هم عداد سكان البلد، كما يتواصل تدفق النازحين (الذين تقدر أعدادهم بمئات الآلاف) إلى أطراف جنوب السودان والسودان وأوغندا وكينيا جراء تواصل أعمال العنف، فيما يتخذ الصراع أشكالاً أشد ضراوة تتمثل في القتل الجماعي والذبح والاغتصاب مجبراً العاملين الإنسانيين على مغادرة مناطق عملهم.
على المستوى الاقتصادي، يعاني اقتصاد جنوب السودان انكماشاً كبيراً لا يزال في طور التصاعد، في حين تعجز جوبا عن سداد الديون المستحقة عليها للسودان (بلغت 1.8 مليار دولار حتى شباط 2016) بفعل تأخرها عن دفع رسوم عبور النفط وتصديره عبر الأراضي السودانية. أما سياسياً، وللمفارقة، فإن الدول التي دعمت الانفصال، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا، هي نفسها التي تدفع اليوم إلى مزيد من الإضعاف للدولة الوليدة، عن طريق فرض عقوبات عليها، والمطالبة بإخضاعها لحظر سلاح لا يزال مستعصياً بفعل الموقفين الروسي والصيني الرافضَين له في مجلس الأمن.

يبدو جنوب اليمن الأقرب
إلى الانزلاق نحو سيناريوات
جنوب السودان


وسط ذلك كله، لا تجد جوبا أمامها إلا الخرطوم، على الرغم من الاتهامات المتواصلة بين الجانبين بدعم الحركات المسلحة المناوئة لسلطات كلا البلدين. من هنا، تأتي مساعي سلفاكير للقاء نظيره السوداني، عمر البشير، بهدف «تعزيز العلاقات». ووفق وسائل إعلام سودانية، فإن القمة المزمع عقدها سيسبقها «اجتماع تحضيري لوزراء الخارجية والأمن والشؤون الداخلية والدفاع والعدالة للبلدين»، من أجل «وضع خطة للجنة الأمن المشتركة مع جدول زمني لتنفيذ التدابير الأمنية». هل يمهد ذلك لعودة جنوب السودان إلى حضن السودان؟ من المبكر توقع هكذا سيناريوهات، لكن لا ضير في التفاؤل الذي تعززه معطيات على أرض الواقع.

«كردستان العراق»

لا تبدو الصورة في إقليم كردستان في شمال العراق بالقتامة نفسها التي تظهر عليها في جنوب السودان، لكن ذلك لا يعني خلو الإقليم، الذي تكرّس منحه حكماً ذاتياً بموجب الدستور العراقي بعد غزو 2003، من عوامل ضعف تؤسس لـ«كابوس» في حال تحقق الانفصال. صحيح أن لدى أربيل عوامل قوة لا تتوافر لدى جوبا، منها الحرص الأميركي على إبقاء كردستان على مستوى معين من التمكين بهدف الاستمرار في استخدامها ورقة ضغط وابتزاز لبغداد، وانفتاح تركيا (التي تعدّ دولة قوية بالمقارنة مع دول أفريقيا الفقيرة والضعيفة) الكبير على الإقليم ومسعود البرزاني، ومساعدتها إياه في تصدير نفطه عبر ميناء جيهان، فضلاً عن تقدم الوعي السياسي لدى أطراف فاعلة في كردستان مقارنة بما هو قائم في جنوب السودان. غير أن أربيل ليست في أفضل حالاتها، بل إن بعض المؤشرات تجعل شبح «الحرب الأهلية» التي اندلعت ما بين أيار 1994 وتشرين الثاني 1997 مخيماً على الأجواء.
يتفق الحزبان الرئيسان في كردستان، اليوم، أي «الحزب الديموقراطي الكردستاني»، بزعامة مسعود البرزاني، و«الاتحاد الوطني الكردستاني»، بزعامة جلال الطالباني، على إجراء استفتاء لسكان الإقليم بشأن الانفصال عن بغداد. اتفاق يوحي بأن الطرفين قررا تجاوز خلافاتهما لصالح ما يعتبرانه «القضية الكبرى»، إلا أن ذلك قد لا يعدو كونه مجرد فورة عاطفية مشابهة لما حصل في جنوب السودان، حيث صوت ما يزيد عن 98% من السكان، في لحظة تاريخية ما، لصالح الانفصال. قد يعزز الاستنتاج المتقدم أن ما بين «الديموقراطي» و«الوطني» خلافات متجذرة وعميقة تشمل السياستين الداخلية والخارجية، وتتخذ مظاهر عملياتية عدة، خصوصاً في أربيل (منطقة نفوذ البرزاني) والسليمانية (منطقة نفوذ الطالباني). ويحكم كل من الحزبين «كردستانه» الخاصة بقوات عسكرية وأمنية تابعة له، ويسعى لبسط يده على أكبر عدد ممكن من مواقع الثروة الحيوية لتقوية سلطته. مساع كان آخرها في أوائل آذار الماضي، حينما اقتحمت قوة من «البشمركة»، تابعة لطالباني محطة نفطية في كركوك، وأوقفت عمليات الضخ فيها.
يُضاف إلى ذلك أن لكل من الحزبين علاقاته الخارجية بدول الإقليم والعالم، ورؤيته المتمايزة لمشروع «الدولة الكردية». بينما يحرص «الديموقراطي» على أفضل العلاقات مع الولايات المتحدة وتركيا، ويتطلع إلى دولة عابرة لحدود كردستان الحالية، يبدو «الوطني» مائلاً إلى نسج أواصر بإيران، متحفظاً، أقله في الوقت الراهن، على مشروع يتخطى الحدود المنصوص عليها في الدستور العراقي. تحفظٌ يستحيل معارضة شرسة، حين يتعلق الأمر بإمساك مسعود البرزاني بالسلطة منذ حزيران 2005، خاصة أنّ الطالباني، ومعه أحزاب وحركات كردية معارضة أخرى، يتهم البرزاني بالتفرد في اتخاذ القرارات، وتحويل المناصب العليا إلى «حكر» على أفراد عائلته.

تهدد الحرب في جنوب
السودان بإعادة تقسيم
«الدويلة» المنفصلة

أبعد من دائرة الخلاف بين «الديموقراطي» و«الوطني»، ثمة طرف كردي ثالث له، هو الآخر، مشروعه ومطامحه. نعني به «حزب العمال الكردستاني» الذي ينظر إلى حزب البرزاني، راهناً، بوصفه قوة ابتزاز، تحاول مصادرة إنجازات خصومها في الدفاع عن الأيزيديين وتحرير مناطقهم. وإذ يحاول حزب عبدالله أوجلان رفع مكانته داخل العراق وعلى مستوى الإقليم، فإنه يظل متربصاً حيال أي تحركات من قبل حزب البرزاني، شبيهة بما وقع في أوائل آذار 2017، حينما اشتبك الطرفان في مناطق عراقية متاخمة للحدود مع سوريا. اشتباك لا يُستبعد تكراره في مقبل الأيام، واتساع رقعته إلى مناطق عراقية أخرى، وحتى إلى داخل الأراضي السورية، حيث لكل من الطرفين حلفاؤه وامتداداته (يدعم «العمال» الاتحاد الديموقراطي الكردي في سوريا، فيما يناوئه «الديموقراطي» متهماً إياه بإقصاء حلفاء البرزاني).
في خلاصة المعطيات، يبدو أن «الاقتتال الداخلي آت» على حدّ تعبير أحد أبرز قادة «قوات حماية أيزيدخان» الجناح المسلح لـ«الاتحاد الوطني»، في حين يزداد الوضع الاقتصادي صعوبة جراء تراجع أسعار النفط، وعجز حكومة أربيل عن دفع رواتب موظفيها، ووقوعها تحت طائلة دين كبير بلغ 20 مليار دولار لسداد جزء من تلك الرواتب، فضلاً عن اضطرارها لفرض ضرائب ورسوم على العاملين في القطاع الخاص، مما أدى إلى إغلاق مئات الشركات بعد إعلان إفلاسها، وتوقف العمل في مئات المشاريع الحكومية، خصوصاً منها المدارس.

جنوب اليمن

يظهر جنوب اليمن، اليوم، الأقرب إلى الانزلاق نحو سيناريوهات شبيهة بما هوى إليه جنوب السودان. لم يفعل تحالف العدوان، الذي تقوده السعودية في اليمن، أكثر من تأجيج نيران الكراهية في هذا الشطر من البلاد ضد كل ما هو شمالي. صبت دول التحالف الزيت على نيران قضية «مركز شمالي» و«طرف جنوبي» (هي واحدة من معضلات عديدة ينوء تحتها اليمنيون)، يعانيها اليمن منذ دخول شطريه في وحدة اندماجية عام 1990، مستغلة عصبية الفصائل الانفصالية في الحراك الجنوبي، وخفة خطابها السياسي، لتصنع «نصراً» عجزت عنه قواتها الجوية. بكل نزق وطيش، وبعيداً عن أي حسابات وطنية أو حتى موضوعية، انجرّت تلك الفصائل إلى القتال تحت راية تحالف العدوان، مجلية مفارقة شديدة الغرابة قوامها الترحيب بالغازي السعودي الإماراتي ورفض أبناء الجلدة وتعميق الخلافات معهم بل واختلاقها.
رفضٌ ترافق مع العزف بشكل متواصل على أنغام انقسامات هوياتية قومية وطائفية، تتنوع ما بين «يمن مطلع ــ يمن منزل»، «يمن زيدي ــ يمن شافعي»، «يمن شمالي ــ يمن جنوبي» وغيرها. تحسست القوى الشمالية الوطنية خطورة المرحلة، وآثرت الابتعاد عن ذلك المستنقع ريثما تهدأ النفوس، لكن ماذا كانت النتيجة؟ لم يرتدّ الجنوبيون إلى قوالب «نصف حزبية» كما حدث في ثمانينيات القرن الماضي، حينما انقسمت اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي متسببة بصراع دام وتصفيات شنيعة، بل بدا أنّ تلك الأطراف عادت إلى أصغر الهويات وأشدها ضيقاً، إلى ما قبل قيام «جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية» (سابقاً)، حيث كانوا لا يزالون رعايا في ظلّ سلطنات ومشيخات صغيرة تابعة للاستعمار البريطاني.

يرتد اليمنيون الجنوبيون
اليوم إلى أصغر هوياتهم وأشدها ضيقاً

هكذا، تأججت المناداة بـ«الحضرمية»، و«الشبوانية»، و«اللحجية»، و«الأبينية»، و«العدنية»، و«الضالعية»، و«اليافعية». مناداة لا تقتصر على الجانب الكلامي، بل أضحى لصاحب كل من تلك الدعوات قوات عسكرية وأمنية يستخدمها أداة في حجز حصة من السلطة «الشرعية» المتهافتة، أو في أحسن الأحوال (في المناطق المتقدمة لناحية الوعي السياسي مقارنة بغيرها كحضرموت) للدفع باتجاه مشروع «انسلاخي».
في عدن، تتوزع المعسكرات بحسب الانتماءات المناطقية، ويُعدّ أبرزها معسكر جبل حديد الذي يهيمن عليه «أصحاب» الضالع، ومعسكر الحماية الرئاسية المفروز لـ«أصحاب» أبين، ومعسكر «الحزام الأمني» المحسوب على «أصحاب» يافع. أما في شبوة، فتبرز ميليشيات سلحتها ودربتها الإمارات تحت مسمى «النخبة الشبوانية» تتولى مهام أمنية على الشريط الساحلي وحول المنشآت الحيوية. وفي حضرموت، تجد مكونات سياسية واجتماعية وسلطوية الفرصة سانحة لاستعادة حلم «دولة حضرموت»، مستغلة قوة ميليشيات شكلتها الإمارات، كذلك، تحت مسمى «النخبة الحضرمية»، وسيطرة الرجالات الموالين لأبو ظبي على عدد من الموارد الحيوية.
ما بين أولئك جميعاً لا مشتركات، بل خلافات حادة تُرجمت توترات واشتباكات في غير منطقة، ولا يُستبعد أن تتدحرج كرة نارها في المرحلة المقبلة، تماماً كما لا يُستبعد أن يندلق عنف التنظيمات الإرهابية، التي تعمل على جمع أوراقها بهدوء، في أي لحظة، وتتوسع رقعة نفوذها. سيناريو من شأنه، إذا ما تحقق، إتمام المشهد السوداوي الذي يتشكل في عدن خصوصاً والجنوب عموماً، في ظلّ أوضاع اقتصادية متدهورة هي الأسوأ، يتواصل فيها انقطاع رواتب الموظفين والمتقاعدين على الرغم من نقل البنك المركزي إلى عدن، وتنعدم أبسط وجوه الخدمات، لا سيما الكهرباء.
لا أفق
مثلما تم فرض خيار الانفصال في جنوب السودان تحت وطأة الحرب الأهلية والتدخلات الخارجية وهشاشة المركز، يُراد اليوم جر العراق إلى الأتون نفسه بدعوى، يرددها مسعود البرزاني دائماً، مفادها بأن «الحدود الجديدة في المنطقة تُرسّم بالدم». كما يُراد، في حالة جنوب اليمن، تشطير الدولة في ظل العداون السعودي والاستثمار الإماراتي في الخلافات وتوقد السعار المناطقي والطائفي المتأسس على خلافات تاريخية. سيناريوهات «انتحارية» لن تفضي، في حال تحققها، إلا إلى طريق مسدود. ذلك أن مريديها لا يجتمعون إلا على «مشتَرك» عاطفي، تحركه بالنسبة إليهم فرصة لتصفية الحسابات والتحرر من القهر. ولذا، سرعان ما سيندفع هؤلاء، بعد نيل مطالبهم، إلى التناحر والتدمير الذاتي والصفرية والتلاشي.




الاستعمار... أبداً ودائماً

لطالما شكّل تقويض الهويات الكبرى استراتيجية رئيسة من استراتيجيات الاستعمار. إبان عهد الإمبراطورية البريطانية، برزت حركات شوفينية لعب الضابط البريطاني الشهير، توماس لورنس، دوراً رئيساً في استنهاضها. منها ما كان يدعو إلى العودة بالعراق إلى ما قبل آلاف السنين، إلى حضارَتي بابل وسومر وزمان حمورابي، ومنها ما كان ينادي بوحدة أقباط مصر إزاء عربها وبعودة الأخيرين إلى عصور الفراعنة، ومنها ما كان يحضّ على وحدة «قبايل» الجزائر بمواجهة عربها، ومنها ما كان يحثّ على عودة الأتراك إلى العهد البيزنطي، والعرب إلى التراث الجاهلي، واليمنيين إلى حضارات عاد وثمود... إلخ.
كان الهدف من إثارة تلك النزعات تفسيخ أي إطار واسع يجمع شعوب المنطقة، وإيجاد إطارات قومية أو عرقية، بدلاً منه، توطئ الطريق لفرض تقسيم «حيوي» لمصلحة دول الاستعمار، سرعان ما جلته اتفاقية سايكس ــ بيكو. مع أفول نجم الاستعمارين البريطاني والفرنسي، ووراثة الولايات المتحدة الأميركية، بسرعة، الهيمنة على دول ضعيفة مجزأة تحكمها سلطات مستتبعة، وتنغص علاقاتها خلافات حدودية تم زرعها عمداً كقنابل موقوتة، لم تتبدل استراتيجيات «التفتيت»، إنما تبدلت، فقط، عناوينها ومعطياتها.
قبل سنوات، طفت على السطح دعوات تصح تسميتها بـ«التزمت الوطني»، ذلك أنها تعبر عن «وطنية» مفرطة وعدوانية لا تستند إلى منطق معين، ولا تتسق ضمن نموذج فكري أو «باراديغم» محدد. هذه الدعوات، التي من قبيل «لبنان أولاً» و«العراق أولاً» و«مصر أولاً»، ترتكز إلى تفضيل مطلق لمصلحة الوطن «الصغير»، مهما كانت ضيقة وأنانية، وحتى لو أن اتّباعها لن يعود على المنادي بها بمنفعة، سوى أنه سيخدم سياسات الدول الكبرى التي تتقن اللعب على وتر العصبيات لتحقيق أهدافها.
حديثاً، ومع اندلاع موجة «الربيع العربي»، وتحولها في غير دولة إلى حرب طاحنة، تتالى ظهور الدعوات الانفصالية، «الانغلاقية»، على حساب الخطاب الوحدوي، الجامع. هكذا، تسعرت مطالبات الأكراد بدولة مستقلة، وتزخمت مناداة الأقليات الكلدانية والسريانية والآشورية بحكم ذاتي، وتعالت الأصوات السنية والشيعية الحاضة على «مناطق صافية»، وعاد أقباط للحديث عن دولة «قبطية» مستقلة تنفصل عن مصر (بالتزامن مع انفصال جنوب السودان، خرجت إلى النور جمعية مسماة «الجمعية القبطية الأميركية»، اتخذت من نيويورك مقراً لها، وسرعان ما بدأت فتح مكاتب لها في دول متعددة)، واجتاحت الموجة كذلك اليمن، الذي كان إلى وقت غير بعيد سليماً من لوثة العصبيات العرقية والمذهبية.