ما كان بالأمس مجرد «دردشة غير رسمية» بين إسرائيل و«حماس» ــ نفته الأخيرة آنذاك ــ بات اليوم «أفكاراً مكتوبة» تدور حول هدنة من خمس إلى عشر سنوات، تضمن الهدوء وتمنع إطلاق الصواريخ من قطاع غزة. وقد سارعت قيادات «حماس» إلى تبسيط هذا الحدث وتبريره حتى قبل إعلانه؛ فقد قال مسؤول العلاقات العامة في الحركة أسامة حمدان إن «الأفكار التي تقدمها حماس، رداً على أي جهة، لا تخرج عن خدمة العمل الجاد لإنهاء الحصار عن غزة»، وأكد أن "الصورة لم تعد مخفية عن حجم معاناة أهل القطاع». كذلك قال المتحدث الإعلامي سامي أبو زهري إننا «سنتعاطى مع أي جهد لكسر الحصار وتخفيف معاناة غزة، ولكن من دون أن يؤثر ذلك في قضايانا الوطنية».
هذه التصريحات تشير أولاً إلى وجود اتصالات مباشرة أو غير مباشرة مع إسرائيل، وهدنة قد تعلن لنا في أي لحظة، وثانياً هي تبين أن المبرر وراء هذه الخطوة ــ كما تسوقه «حماس» ــ هو الحالة الإنسانية التي وصل إليها الغزيون بسبب سنوات الحصار وتوالي الاعتداءات الإسرائيلية عليهم. وهي مبررات يمكن تفهمها بالمنطق السياسي، بل يمكن شرعنة المناورة للخروج من هذه الأزمة؛ ففعلاً حالة الإنهاك التي وصل إليها أهل القطاع لم تعد تطاق، ولكن بالمنطق الوطني يمكننا إعادة صياغة هذا المبرر بكلمات أكثر وضوحاً ووجعاً، فـ«حماس» اليوم باتت مجبرة على مقايضة المقاومة ولو لزمن محدود مقابل رغيف الخبز وسهولة الحركة.
هنا تختلف الزاوية التي يمكن أن نرى منها هذه التطورات، فتتجاوز المسألة حدود التبرير إلى ضرورة التفسير، ويصبح من الواجب على من قاد «حماس» في السنوات العشر الأخيرة أن يجيب عن كثير من الأسئلة، أهمها: كيف وصلوا إلى هذا المربع الضيق؟ هل هو نتيجة تراكم سياسات غير صحيحة؟ أم إن المؤامرة كانت أكبر منهم؟ هل فعلاً الظروف الحالية فرضت نفسها وأجبرتهم على ما لا يرغبون فيه أم هناك تيار في صفوف القيادة سعى إلى ذلك وهو راغب فيه؟

سارت الحركة على خيط رفيع بين المقاومة والسياسة المحكومة باتفاقات دولية

ربما لا نختلف على أن المشاركة في الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006 كانت بداية مسيرة من التحولات التي أصابت «حماس»، ثم تطورت مع انفصال عام 2007، ووصلت ذروتها بعد 2011 حينما خرجت من سوريا ودخلت في لعبة التوازنات الإقليمية. كان لـ«حماس» مبرراتها للمشاركة في الانتخابات، فقد رأت أن «أوسلو» لم يعد موجوداً بفعل الانتفاضة الثانية، لذا فهي غير محكومة بسقفه أو بشروطه، كما بررت بشعارها الانتخابي آنذاك «الإصلاح والتغيير» قولها إن حالة الفساد التي استشرت في مؤسسات السلطة الفلسطينية لم يعد من الممكن السكوت عنها، لذلك لا بد من تغيير. فكانت «المفاجأة» أنها حصلت على أغلبية مطلقة، ومنذ وقع ذلك الحدث الكبير بمعناه السياسي سارت «حماس» على خيط رفيع بين المقاومة والسياسة المحكومة باتفاقات دولية، وهو الخيط الذي أوصلها إلى المربع الضيق الذي هي فيه اليوم.
حذّر الحريصون على بقاء جدار ــ ولو أخير ــ من المقاومة والنضال في فلسطين، «حماس» من السير على هذا الخيط، ومن المزاوجة بين مقاومة لها بيئتها الخاصة وعمل سياسي له شروطه، خاصة بعد أن رفض المجتمع الدولي نتائج الانتخابات وأوقف التمويل وقطع رواتب الموظفين. كان أمام الحركة خيار أن تترك السلطة التنفيذية لحكومة مستقلة أو تكنوقراط وتجلس في مقاعد المعارضة تمارس عملية الإصلاح الداخلي الذي وعدت به الشعب، وفي الوقت نفسه تضع حداً للتفريط بالحقوق الوطنية بالفيتو على نتائج المفاوضات مع إسرائيل الذي يمنحها إياه استحواذها على السلطة التشريعية.
لقد كان أمامها فرصة ذهبية، بالأغلبية التي دعمتها، أن تفرغ السلطة من مضمونها السياسي الذي بنيت من أجله قدر الإمكان، من دون أن تتحمل مسؤوليات كثيرة تمس بمقاومتها. لكن شهوة السلطة أعمتها عن قراءة المستقبل قراءة صحيحة، فاختارت أن تكمل السير على هذا الخيط الرفيع، حتى بعد أن تبين أن «أوسلو» لا يزال حياً.
المستقبل الذي لم يقرأ بطريقة صحيحة، وقد بات اليوم حاضراً صعباً، عبّر عنه الرئيس السابق لوحدة «العمليات الخارجية في الموساد»، حاييم تومير، في تعليقه على الأنباء التي تتحدث عن قرب إعلان هدنة بقوله، إن «حماس حركة تحولت إلى نظام، وفي هذه الحالة فإنك يمكن أن تعاني جراء توليك السلطة... هذا هو ما يتعلمونه الآن، لذا فهم يبحثون عن خيارات».
وفعلاً، اختبرت «حماس» جيداً معنى أن تكون داخل النظام وأن تتحمل مسؤولية إدارة حياة الناس اليومية والمعيشية، حينما وجدت نفسها مجبرة على توفير رواتب الموظفين بنفسها. ولكن بدلاً من أن تعيد تقييم التجربة وتدرس ما يمكن أن تجره عليها وعلى مقاومتها، استمرت في خضوعها لشهوة السلطة حتى وقع الانفصال ــ أو الحسم العسكري، سمّوه ما شئتم، فأصبحت مسؤولة بصورة مباشرة عن الحياة اليومية لأكثر من مليون ونصف مليون إنسان في قطاع غزة.
كانت الخشية من تحمّل هذه المسؤولية هو أن تتحول «حماس» إلى جزء من النظام السياسي الذي دخلته، فيغيّرها بدلاً من أن تغيّره، بل تخضع لشروطه وقواعده، راغبة أو محكومة بواقع الأمر، وفي النتيجة تقدم ما لم تقبل تقديمه عام 2006. الوقت هنا يفرز واقعاً عملياً لا يمكن تجاهله أو تجاوزه بمجرد التمسك بشعارات من قبيل «إننا لا يمكن أن نفرط بالثوابت الوطنية». مثلاً، السلطة الفلسطينية التي كان يفترض أن تصبح دولة، تحولت حتى قبل دخول «حماس» فيها إلى ما يشبه الإدارة المدنية: تدير حياة الناس بالوكالة عن الاحتلال، وبالتنسيق معه، ووفق شروط المموّل الدولي، لذا فإن «حماس» وغيرها من قوى النضال والمقاومة، إن لم تستطع تغيير هذا الواقع من الداخل، فلا مبرر لبقائها فيه.
رغم ذلك، بقيت «حماس»، فازدادت «براغماتيتها» واتسعت الفجوة بين خطابها وممارستها العملية، وظهرت التباينات في المواقف بين قادتها، ثم دخلت في تحالفات إقليمية لا علاقة لها أحياناً بنهجها المقاوم، وجاء خروجها من سوريا وتضرّر علاقتها بمحور المقاومة ليشكل منعطفاً أكثر خطورة ويزيد في شق صفها الداخلي. وهو ما فرض سؤالاً منطقياً: هل «حماس» لا تزال بعيدة عن احتمال عقد اتفاق ما مع إسرائيل؟ هل هي ترفض مطلقاً مبدأ حل الدولتين... وقبل ذلك، عن أي «حماس» نتحدث؟
عندما قرر محمود عباس التوجه إلى الأمم المتحدة للمطالبة بدولة بصفة مراقب، اتصل به خالد مشعل ورحّب بخطوته. وإسماعيل هنية قال إن ذلك «يدل على رفع الغطاء الدولي عن إسرائيل، ونرحّب بهذه الخطوة، ولكن على قاعدة عدم الاعتراف بإسرائيل». لكن محمود الزهار قال آنذاك إن «التوجه إلى الأمم المتحدة تنازل عن أراضي الـ48... هذه الدولة جريمة كبرى عندما نأخذها على حدود الـ67.

«حماس» تمارس منذ سنوات ما يمكن تسميته «مقاومة ردّ الفعل»
القرار 181 أعطانا أكثر من هيك ورفضناه». وفي الرصد، فإن وفداً من قيادات الحركة في الضفة اجتمع بمحمود عباس خلال تلك الفترة قال إن «أي خطوة تعيد للشعب الفلسطيني أي حق من حقوقه بأي محفل دولي كان نؤيدها»، وكل ذلك امتداد لما وقّعه مشعل ــ إعلان الدوحة ــ عام 2012 لتشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة عباس، علماً بأن الزهار عارضه وقال إننا «في الداخل لم نستشر في الأمر».
يمكن قراءة هذه التباينات داخل الحركة كإفراز طبيعي لتعقيدات الواقع الذي نتحدث عنه، وكواحدة من مظاهر صعوبة التعامل مع قواعد النظام الذي دخلته بملء إرادتها، ومسّ حتى استراتيجية فعل المقاومة في الميدان. أيضاً، فإن «حماس» منذ سنوات تمارس ما يمكن تسميته مقاومة رد الفعل، أي إنها لا تسعى إلى المعركة بقدر ما تخوضها مكرهة ــ مع عدم الانتقاص من تقدير واحترام ما تقدمه وتحققه بطبيعة الحال ــ فقد انتهى عدوان 2012 بتوقيع هدنة بوساطة حكم «الإخوان المسلمين» في مصر، إذ امتنعت الحركة ومنعت إطلاق صواريخ من غزة، حتى وقع عدوان صيف 2014 الذي فرضه تفجّر الوضع في القدس، ما يؤشر مرة أخرى إلى أي مستوى من البراغماتية يمكن ــ للدخول في قواعد لعبة سياسية محكومة بشروط دولية وتوازنات إقليمية ــ أن يأخذ حركة مقاومة وتحرر.
إذاً، لا يمكن اعتبار «حماس» ما قبل عام 2006 هي نفسها ما بعده. فثمة تغييرات حقيقية تحدث، ومخاض قاس وبطيء تعيشه الحركة. هنالك اليوم «حماس» الداخل والخارج، وهنالك تباين ما بين السياسي والعسكري، أو لنقل إن هذه التجربة قد أفرزت تياراً براغماتياً بات يستهوي العمل من داخل النظام ــ السلطة ــ ومستعد ليكون جزءاً منه، وتيار يبدو كأنه يرفض ذلك، ولكن لا يجد سبيلاً سهلاً للخروج من الواقع الشائك.
المخيف في الهدنة التي يدور حولها الحديث الآن أنها جاءت نتيجة لحالة الإنهاك التي أصابت أهل القطاع و«حماس» نفسها، وعلى هذا فإن السؤال: إلى أي درجة يمكن لهذا الإنهاك أن يأخذ «حماس» بعيداً عن نهجها، ومع أي من التيارين هذه الحركة ذاهبة؟
لا يمكن تقديم إجابة قاطعة الآن، ولكن لا خيار أمام «حماس» سوى الدخول في عملية مراجعة صريحة وقاسية للسنوات العشر الأخيرة على قاعدة أننا نختلف على السلطة وليس فقط معها، وأن هذه التجربة أخذت من الحركة أكثر مما أعطتها، والحل يكمن في الخروج من المعبد نهائياً، وإلا فإن الاستمرار في السير على الخيط الرفيع ستكون نهايته السقوط، وحينئذ تكون «حماس» قد ذهبت مع التيار البراغماتي إلى أبعد مدى.