الجزائر | وصل عبد العزيز بوتفليقة إلى الحكم في شهر نيسان/ أفريل سنة 1999، خلفاً لليامين زروال الذي حكم في أصعب سنوات الحرب الأهلية، وأخرجوه من الباب الضيّق. تقول الروايات كلّها إنّ «الحاكمين بالأمر الواقع» وقتها: الجيش والمخابرات، هم من أتوا ببوتفليقة بصفته رجلاً من زمن ثانٍ. هو خرج من البلاد منذ الثمانينيات إثر قضية مع مجلس المحاسبة للحزب الحاكم (جبهة التحرير الوطني ــ FLN)، وهو الذي كان طوال فترة حُكم بومدين (1965 ــ 1978) وزيراً للعلاقات الخارجية، و«أصغر وزير في العالم»، كما يحلو لهم ترديد ذلك.
بعد ست سنوات من العيش في الخارج، متنقلاً بين بلدان عربية وأوروبية كثيرة، ومستقراً لفترة في دولة الإمارات، عاد بوتفليقة في عام 1987 إلى البلاد، ليشارك في انتخابات انسحب منها الجميع بعدما استشرفوا ما الذي سيحدث فيها. هكذا يبدأ كتاب «بوتفليقة، خدعة جزائرية» لمؤلفه الصحافي محمد بن شيكو، رئيس تحرير جريدة «لوماتان». الكتاب الذي صدر سنة 2004، بأشهر قليلة قبل ترشح «الرئيس» إلى العهدة (الولاية) الرئاسية الثانية، أراد له مؤلفه أن يكون قبل كل شيء تسجيلاً «لوقائع الزمن المهدور في البحث عن مصير وطني يليق بالتضحيات اللامعدودة».
فاز بوتفليقة بالعهدة الثانية. مُنع الكتاب وتوقّفت الجريدة، وسُجن بعدها بن شيكو لأربع سنوات، في قضية تهريب أموال في المطار. قلّة هم من قرأوا الكتاب خارج دوائر الصحافيين وأصدقائهم. كنّا نسمع به سماعاً، مثل فيلم «فيفا لالجيري» للممثلة بيّونة الذي قالوا لنا وقتها إنّها تتعرّى فيه، ورغم أنّ بيونة كانت بمقياس الجزائريين مسلوبة من كل ألقٍ جنسي، فإنّ الجميع لم يُقاوم متعة التلصّص.
لا تتذكّر الأجيال المولودة في بداية التسعينيات رئيساً غير بوتفليقة. وتتذكّر حتماً خطاباته سنة 1999؛ النبي القادم لإخراج البلاد من نفق «العشرية السوداء»، المدني القادم من خارج الجيش، الفتى الذهبي لأبي الدولة الوطنية هواري بومدين. جال البلاد طولاً وعرضاً، يصرخ في القاعات ويتكلّم بحماسة، والكل يذكر جملته تلك عن الجنرالات: «لن أذهب إلى الحلبة لأصارع السبع وأنا أعرف بأنكم لستم معي... إذا غلبته تصفقون لي... وإذا غلبني تصفقون له». كان يريد دعماً كاملاً من الناس. لم يصدقه أحدٌ بأنّه سيحارب «السبع» الذي أتى به، لكن النّاس صفّقوا.
العهدة الأولى كانت صعبة. شهدت الجزائر أحداث «الربيع الأمازيغي» في حزيران/ جوان 2001، التي خلّفت عشرات الضحايا، فكان ذلك بمثابة امتحان فشلت فيه الرئاسة والحكومة التي كان يرأسها علي بن فليس (هذا الأخير سيترشّح للانتخابات الرئاسية في سنة 2004، فيصير معارضاً لرئيسه السابق).
ظلّ بوتفليقة يرفع شعار التنمية ودفع الديون الخارجية للبلاد، وجاء الغزو الأميركي للعراق سنة 2003 ليرفع أسعار النفط ويساعد على ضخّ الأموال في خزينة الدولة (تمثل مبيعات الطاقة رقماً كبيراً من الموازنات الحكومية)، ولتبدأ بذلك سياسة شراء السلم الاجتماعي. لكن أيضاً، سنة 2003، هي سنة إفلاس رجل الأعمال عبد المومن خليفة، وتفجير فضيحة مجمّع الشركات التي يملكها وعلاقتها برجال نافذين في السياسة والمصارف.
يفوز بوتفليقة في الانتخابات: خمس سنوات جديدة، وعهدة جديدة. بدأت هذه العهدة بالإعداد لمشروع «الوئام المدني» الذي كان البرلمان قد أقرّه نهاية سنة 1999. يصير بوتفليقة رئيساً شرفياً للحزب الحاكم، ثم يقود حملة لاستفتاء شعبي ضخم في سنة 2005 حول هذا القانون، الذي يقدّم العفو التام لأفراد الجماعات المسلّحة في الجبال الذين يسلّمون أنفسهم، لكن أيضاً، وهذا الأهم: إغلاق ملف التسعينيات للمرّة الأخيرة، ومن دون حساب، للطرفين. تقول إحدى الصحفيات عن يوم الاستفتاء: «كان عمري 15 عاماً يومها، سألت والدي إذا ما كان سيصوّت على هذا القانون، كنت قد سمعت أنّه غير عادل بالنسبة إلى أهالي الضحايا، لكني لم أكن أفهم بقيّة الاعتراضات. قال لي والدي: لا نستطيع أن نقول لا للسلم. لكنه صباح الاستفتاء، بقي نائماً ولم يذهب للتصويت». كانت نتيجة الاستفتاء تقارب المئة في المئة لـ«نعم».
تفجيرات هنا وهناك في البلاد. الرئيس ينجو من محاولة اغتيال سنة 2007. حرب في الكواليس بين الرئاسة والمخابرات، والكل يتكلّم عن ربّ الجزائر الخفيّ على رأس المخابرات: الجنرال توفيق.
أول سفر إلى فرنسا بعد تدهور حالته الصحية كان في 2005، والسبب وفق التصريحات: قرحة في المعدة. عدا أسعار النفط، لا شيء جيّد في الجزائر، قبل أن تصل سنة 2008 ويصوّت البرلمان بأغلبية ساحقة لتعديل الدستور وفتح عهدات ترشّح الرئيس، وجعلها مفتوحة بدل عهدتين.
بعد فوزه بالعهدة الثالثة سنة 2009، سيتغيّر بوتفليقة. تثقل رجله عن الزيارات إلى الخارج وتبدأ صحته بالتدهور، لكنه يصير ممسكاً بمفاصل الدولة أكثر فأكثر. يتخلّص من الجنرالات الذين أتوا به، واحداً تلو الآخر. البعض يخرج للتقاعد مثل خالد نزّار، والبعض الآخر يموت، أو يعيّن سفيراً في شبه منفى، كما حدث مع العربي بلخير، في المغرب. وتأتي مباراة مصر والجزائر نهاية سنة 2009، لتفتح للسلطة باباً تُدخِل فيه الناس وتتركهم لحمى كرة القدم؛ حمى لن يشفوا منها لسنوات.

تغيّر الرئيس بوتفليقة
بعد 2009، حين بدأت
صحته بالتدهور


بعد الخسارة في مصر، والذهاب إلى السودان للعب مباراة السّد، يخرج الآلاف في شوارع العاصمة للهتاف باسم الرئيس، مطالبين إياه بأخذهم إلى السودان لحضور المباراة. تتجنّد كل مؤسسات الدولة ويُرسل المشجعون في طائرات مدنية وعسكرية بالآلاف إلى أم درمان لملء المدرّجات، وبعد الفوز بالمباراة والتأهل للمونديال يُنسى كل شيء، ويصير الكلام فقط عن المونديال الذي لم تتأهل له البلاد منذ الثمانينيات.
تستمر العهدة الثالثة على نفس المنوال، بين شعارات التنمية والأمن والاستقرار. وعندما يأتي «الربيع العربي» تتقوقع الجزائر على نفسها أكثر. تقوم الحكومة بفتح قروض للشباب من أجل فتح مشاريع صغيرة ومتوسطة. كالعادة تتجه بوصلة السلطة نحو سياسة شراء السلم الاجتماعي. يسقط قانون الطوارئ القائم منذ التسعينيات، وفي سنة 2012 يخطب الرئيس خطبته الأخيرة التي قال فيها إنّ على جيله أن يسلّم المشعل للأجيال اللاحقة.
بعد ذلك، تأتي فضيحة «سوناطراك» (الشركة الوطنية للمحروقات، وأهم شركة في البلاد) لتمسّ أحد المقربين من الرئيس: الوزير السابق شكيب خليل، صديق بوتفليقة ومواليد مدينة وجدة، مثله. وعندما يصدر النائب العام في العاصمة مذكرة اعتقال في حقه سنة 2013، يكون خليل قد عاد إلى الولايات المتحدة حيث يقيم منذ الستينيات. سنة 2013 هي أيضاً سنة الجلطة الدماغية التي أصابت الرئيس، وأقعدته لأشهر. لا نسمع عنه أخباراً سوى أنه سافر إلى فرنسا للعلاج.
هذه هي المرحلة التي لا تزال متواصلة حتى اليوم. وعندما كان الجميع شبه متأكد من أنّ بوتفليقة لن يترشّح لعهدة رابعة، فعلها (أم فعلوها به؟). بُلّغَ خبر الترشح عبر الوزير الأول عبد المالك سلال، والذي تنحى بعدها مؤقتاً ليقود حملة الرئيس. قمعت الشرطة المظاهرات القليلة التي خرجت تُندّد بقرار الترشّح، وهاجمت بعض القنوات «الخاصة» وعرّضت بالناشطين والصحافيين المعارضين.
بين بداية شهر آذار/ مارس وحتى يوم 29 نيسان/ أفريل 2014، كان كرنفالاً متواصلاً من البروباغاندا والتعتيم على القمع الذي تعرّض له الصحافيون وأعضاء «حركة بركات». فاز بوتفليقة بالانتخابات التي جُلِب للتصويت فيها «على نفسه» فوق كرسي متحرّك، ودخلت الجزائر معه عُهدة رابعة. منذ سنة 2014، صارت كل المعارك بين رجال السلطة والمال تُخاض باسم الرئيس. الحملة التي شنّها عمار سعيداني، وهو الأمين السابق لحزب «أفالان»، على الجنرال توفيق، كانت كذلك.
دُفع توفيق إلى التنّحي نهاية سنة 2015، وأُعيدَت هيكلة جهاز الاستخبارات. أعلِنت سياسات التقشّف في الدولة بعد انخفاض أسعار النفط. حصلت الفتنة الطائفية في مدينة غرداية. كل ذلك والرئيس غائب، لا يطلّ سوى عبر نشرة الأخبار ليقابل رئيساً أو سفيراً. وعندما تتعالى الشائعات حول وفاته، يخرج الوزير الأول أو مسؤول من الحزب الحاكم لـ«طمأنة» الشعب.
في السنة الماضية، توفي صحافي في السجن بعد إضراب عن الطعام، وقبله بقي مراسل جريدة محليّ في السجن لسنوات من دون محاكمة، واليوم يدخل الناشط كمال الدين فخار، شهره الثالث من الإضراب عن الطعام. على الجهة الأخرى، انخفض سقف السلطة من «الرئيس قادر على الحُكم» إلى «الرئيس قادر على الحياة». وقبل أشهر، خلف جمال ولد عبّاس (83 عاماً)، سعيداني، على رأس الحزب الحاكم. وهذا الرجل الموجود في الساحة قبل تأسيس الدولة الوطنية حتى، قال إنّ الرئيس يجب أن يُعاد ترشيحه لعهدة خامسة سنة 2019.
«دكتاتورية ناعمة» تلك التي تعيشها الجزائر اليوم، ومنذ سنوات، بعد الخروج من عُشرية دامية كانت حرباً على المدنيين قبل أن تكون على الإرهاب. وها هو البلد يصل إلى مفترق الطرق، حيث أغلقت كل الآفاق والخيارات. صار الناس يتساءلون: من سيخلفه إذا تنحّى أو توفي؟ فيما يردّد من هم في الحُكم: لا أحد غيره. «دكتاتورية ناعمة» تعيش زمنها الخاص وتتربّع على مساحة أكبر بلد أفريقي وعربي، ولا أحد يعرف متى ستنفجر.




«السعيد»... حاكمٌ بأمره؟

السعيد بوتفليقة من مواليد 1957، هو الشقيق الأصغر للرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، وهو اليوم يشغل منصب مستشار في رئاسة الجمهورية، ويشاع أنَّ له نفوذاً واسعاً في منظومة الحكم بالبلاد، خاصة بعد المرض الذي أصاب شقيقه وأقعده عن ممارسة صلاحياته الدستورية الواسعة.
عمل السعيد بوتفليقة قبل وصول أخيه إلى سدة الحكم بالبلاد سنة 1999، أستاذاً جامعياً في الإعلام الآلي في «جامعة هواري بومدين التقنية». في وقت لاحق، عُرف السعيد بدوره الحاسم في تولي شقيقه ولاية رئاسية رابعة عام 2014، في ظل صراعات قوية بين أجنحة الحكم آنذاك. هو يهوى التأثير من خلف الستار، ويرفض تماماً الظهور إعلامياً للدفاع عن نفسه في كثير من القضايا التي تناولته.
لديه صداقات واسعة في عالم المال والإعلام بالجزائر، أبرزها مع علي حداد رئيس «منتدى رؤساء المؤسسات». اتهمته بعض الأحزاب والشخصيات المعارضة بأنه يسعى إلى وراثة الحكم من أخيه، إلا أنه نفى عبر مقرَّبين منه سعيه إلى ذلك.