في خلال النصف الأول من عام 2014، ازداد حضور تنظيم «داعش» من دير الزور مروراً بالحدود العراقية وصولاً إلى السويداء ثم درعا، وبالقرب من القنيطرة حتى الحدود الأردنية. لكن هذا الحضور بقي خجولاً في المنطقة التي كانت تعدُّ قاعدة انطلاق فصائل «الجيش الحر» في بداية الحرب... إلى أن قرّر «لواء شهداء اليرموك» المتمركز في محافظة درعا مبايعة تنظيم «داعش» أواخر عام 2014، ليلتحق به فصيلان آخران هما حركة «المثنّى» و«سرايا الجهاد»، ليعلنوا أخيراً توحّدهم في «جيش خالد بن الوليد» في أيّار 2016 في منطقة وادي اليرموك غربي مدينة درعا، على المثلث الأردني ـ السوري ـ الجولان المحتل.
الهدوء لم يدم طويلاً، إذ حصلت اشتباكات عديدة بين فصائل «الحر» و«النصرة» من جهة ومبايعي «داعش» من جهة أخرى، إلا أنها في الكثير من الأحيان لم تحدث تغييرات مهمة في الواقع الميداني. ليبدأ بعدها مسلسل طويل من الاغتيالات يطاول قادة الأطراف كافة، وكانت نقطة التحول في هذا السياق اغتيال قائد «لواء شهداء اليرموك» محمد علي البريدي (الخال)، الذي تبنت عملية اغتياله «النصرة»، وبعدها شهدت المنطقة الجنوبية عمليات اغتيال لقادة من الفصائل الأخرى.

محاولات التوسّع

لم يكتفِ التنظيم بسيطرته في منطقة وادي اليرموك، بل حاول مراراً وتكراراً التوسع باتجاهي الشرق والشمال، إلا أن محاولاته باءت بالفشل نتيجة ثبات فصائل «الجيش الحر» و«جبهة النصرة» في محيط منطقة سيطرته. ولا يخفى أن غرفة «الموك» قدّمت في ما بعد للفصائل التي تحارب «جيش خالد بن الوليد» إمدادات سخيّة، وزوّدتها بمعدّات ثقيلة لتحصين دفاعاتها، ما عزّز قدرتها على مواجهة محاولاته التوسعية. وبعد فشل التنظيم بالتوسع، ثبتت خريطة السيطرة بين الطرفين على انكفاء فصائل «داعش» إلى 11 قرية من قرى وادي اليرموك، تمتد على مساحة 100 كم2 تقريباً، في بقعة تحاذي الأردن والجولان السوري المحتل.

سمعة التنظيم
السيئة في مناطق سيطرته حرمته التعاطف الشعبي

ويحاول «جيش خالد» كسر حالة الجمود التي يمرُّ بها، مستثمراً الأخطاء و«مظاهر الفساد، وشبهات التبعية التي تحوم حول قادة في الجبهة الجنوبية لأجهزة مخابرات عربية وغربية»، يُرجِع إليها البعض «التهدئة» الحاصلة في المنطقة منذ ما يقارب العام. ولكن السمعة السيئة لتنظيم «داعش» في مناطق سيطرته وممارسات مبايعيه في محافظة درعا، حرمته التعاطف الشعبي، ما أسهم في تكريس حالة العزلة التي يعيشها مبايعو التنظيم في منطقة حوض اليرموك، إلا أن الدعم الإسرائيلي غير المعلن، بدت آثاره واضحة لاحقاً، من خلال صمود «داعش» وإقدامها على القيام بعمليات هجومية كبيرة على مواقع الفصائل الجنوبية في محيط حوض اليرموك. وفي ظل الهزائم التي منيَ بها «داعش» في سوريا والعراق، يسعى التنظيم حسب مصادر سورية مطّلعة «إلى تحصين وجوده في الجنوب، خشية أن تلحق به تداعيات هزائم الشمال، وبالتالي إضعاف معنويات مقاتليه المحاصرين في حوض اليرموك».

تنازع الولاءات بين الأردن و«النصرة»

لرسم صورة أوضح حول وضع «داعش الجنوب» واحتمالات حدوث تحوّلات في الجبهة الجنوبية، لا بد أن نفهم الدور الأردني وتراجعه أخيراً، حيث إنَّ المملكة عبر «الموك»، استطاعت التأثير في الفصائل الجنوبية في فترة سابقة. إلا أن فشل «الغرفة» في قيادة الفصائل نحو إعادة السيطرة على درعا عبر عملية «عاصفة الجنوب» (أيلول 2015) ضد الجيش السوري أدّى إلى فقدان ثقة الفصائل بها وتراجع دورها لمصلحة «النصرة». حينها بدأت الأخيرة تستغل تراجع الدور الأردني لتعمل على استقطاب فصائل «الحر» إليها. وبعد عملية أيلول الفاشلة، هدأت الجبهة الجنوبية فترة طويلة، لتعود للاشتعال لاحقاً منذ شهرين تقريباً مع عملية «الموت ولا المذلة» التي لا تزال قائمة، وهدفها المعلن هو السيطرة على مدينة درعا عبر مهاجمة حيّ المنشية جنوبي المدينة. وتعتمد هذه العملية أساساً على «جبهة النصرة» التي استطاعت إقناع الفصائل الأخرى بالانخراط معها ضمن غرفة عمليات «البنيان المرصوص» (تشكّلت في شهر آب 2015) بعيداً عن توجيهات الأردن الذي أُجبر لاحقاً على التدخل إلى جانب «النصرة» وحسب معاييرها. واللافت هنا أيضاً بيان «غرفة عمليات البنيان» المرصوص عند بدء العملية، إذ شدّدت فيه على سعيها نحو السيطرة على مدينة درعا بالإضافة إلى قتال «التنظيمات الإرهابية» أي «داعش»، وهذا ما يؤكّد خوف جميع العاملين في المنطقة الجنوبية من تمدد تنظيم «داعش» وتوسعه.
لاحقاً، وتزامناً مع عملية «الموت ولا المذلة»، عاد «جيش خالد بن الوليد» إلى التحرك ميدانياً، حيث هاجم مواقع الفصائل الجنوبية ــ المنشغلة في هجوم المنشية ــ في منطقة حوض اليرموك، حتى وصل مقاتلوه إلى أطراف مدينة نوى مروراً بمناطق تسيل وتل جموع والشيخ سعد.
وذلك «يؤكد إمكانية استغلال جيش بن الوليد لأي فرصة بهدف التوسع أو تحصيل غنائم كما فعل أخيراً، حيث أقدم على سرقة مخازن القمح والمحروقات، والمعدات الطبية من المشافي الميدانية التابعة للفصائل المنتشرة في المنطقة»، كما يروي مصدر عسكري سوري. هنا طلب الأردن بإلحاح من الفصائل الجنوبية إيقاف هجوم المنشية فوراً، والتوجه لقتال «داعش» المتقدم في غربي درعا، إلا أن الفصائل لم تستجب لطلب الأردن تماماً، حيث قررت إكمال الهجوم ــ الذي لم يحقق أهدافه حتى الآن ــ بالإضافة إلى إرسال تعزيزات نحو منطقة حوض اليرموك لمحاولة منع «داعش» من التمدد اكثر. سابقاً، «راهن الأردن على تحكمه بالفصائل الجنوبية لمنع داعش من أي توسّع على حدوده، إلا أن رهانه بدا غير دقيق لاحقاً حين اكتشف أن الفصائل الجنوبية لم تعد ترضخ تماماً لسياساته وتوجّهاته»، يعلّق مصدر سوري مطّلع.

منع تمدّد «داعش» إلى الأردن

بعد هذه المتغيّرات، برزت مجدداً المخاوف الأردنية من تمدد «داعش». إذ إنّ للأردن مخاوف حقيقية من أوضاع الجنوب، وإمكانية انتقال مخاطرها إلى داخل حدوده، سواء عبر تفجيرات وعمليات تسلّل كما حصل العام الماضي في الجهة المقابلة لمخيم الركبان، أو عبر امتداد الاشتباكات في منطقة حوض اليرموك الحدودية إلى داخل الأراضي الأردنية. أخيراً، اضطر الأردن إلى العودة إلى محاولة توحيد الفصائل الجنوبية لمواجهة «داعش»، إلا أن «هيئة تحرير الشام» بقيادة «النصرة»، ما زالت تنازعه على ذلك. وبالإضافة إلى استمرار عمّان بدعم ما يسمى «جيش العشائر» و«جيش سوريا الجديد»، بهدف ضبط الحدود بين سوريا والأردن، فقد علمت «الأخبار» من مصادر عسكريّة مطلعة أن الأردن «عاد أخيراً لتسليح الجيش الحر وتدريبه داخل الأراضي الأردنية في سبيل مواجهة داعش، لأنه شعر بالخطر الكبير، حيث اكتشف أن داعش سيقدم في حال توافر الظروف المناسبة على الدخول إلى الأردن». واللافت ايضاً، أنه حتى الآن لم توجّه طائرات التحالف الدولي أي ضربات على مواقع «جيش خالد» في سياق حربها على «داعش»، باستثناء غارتين شنتهما الطائرات الأردنية في حوض اليرموك، بينما يؤكد مصدر ميداني لـ«الأخبار» أن «داعش» «لا يترك فرصة لتحصين وجوده في الجنوب إلا ويستغلّها». ويضيف أن «الأسبوع الماضي، كان هنالك قوافل كبيرة لداعش تأتي من منطقة تدمر عبر بادية الشام إلى الضمير في ريف دمشق الشرقي، ثم إلى الجنوب باتجاه حوش حمّاد قرب اللجاة». وأكد أنّ «هذه القوافل مرت عبر تقديم الرشى المالية إلى عناصر الجيش الحر والنصرة وحتى المدنيين». وبطبيعة الحال، فإن وجهتهم المقبلة ستكون منطقة حوض اليرموك، حيث «يُعدّون لمعركة كبيرة هناك».
غالباً ما تبدو تحولات المنطقة الجنوبية معقّدة وغير مفهومة، إلا أن الواضح اليوم هو أنّ الجنوب قد دخل فعلاً مطلع هذا العام في دوّامة من التحولات الميدانية والسياسية، لمصلحة اطراف داخلية وخارجية. وفي ظل انكسارات «داعش» في العراق والشمال السوري، تتّجه أنظار المخطّطين في التنظيم نحو الجنوب، الخاصرة الرخوة للأردن، والأرض الخصبة للتشدّد وإقامة «الولايات». وهذه محافظة «الزرقاء» الأردنية (التي شهدت تحرّكات شعبية عدة داعمة للتنظيم) ليست ببعيدة، خاصة أنَّ التنظيم قد أدرج على «لوائح الولايات»، ولاية أخرى سمّاها «ولاية الزرقاء».