باريس | كشفت صحيفة «لو موند» الفرنسية قصة استخبارية مثيرة، قالت إن فصولها بدأت عام 2010 واستمرت حتى شهر آب 2013، واندرجت ضمن عملية تجسس عسكرية مشتركة بين جهاز الموساد والاستخبارات الداخلية الفرنسية، لكشف أسرار برنامج التسليح الكيميائي السوري.
وقالت الصحيفة إن العملية التي اشترك فيها فريق موسع من رجال الاستخبارات والخبراء العسكريين والاختصاصيين النفسيين، بدأت في دمشق، من خلال الإيقاع برجل أعمال سوري، لم تكشف هويته، وذكرت الصحيفة أنه «مرتبط بابنة شخصية كبيرة من أقطاب النظام السوري». ثم تواصلت فصول القصة في العاصمة الفرنسية باريس، حيث سعى الفريق الأمني المشترك الفرنسي ــ الإسرائيلي، على مدى 3 سنوات، إلى الإيقاع برجل الأعمال السوري المذكور واستدراجه لكشف أسرار البرنامج الكيميائي لبلاده، من دون أن يعرف الأخير أنه يشتغل لحساب جهات معادية.
ووفقاً للقصة، التي قالت «لو موند» إنها جمعت تفاصيلها من مصادر أمنية ودبلوماسية وقضائية، فإن الشخصية المحورية في عملية التجسس هذه، التي سميت «Ratafia»، ضابط في الموساد يحمل اسماً إيطالياً تم تعريفه في باريس إلى رجل الأعمال السوري المغرر به. ونشأت بين الرجلين «صداقة» مهدت لشراكة تجارية بين شركة الإلكترونيات التي يمتلكها رجل الأعمال «الإيطالي» وبين شركة أسسها رجل الأعمال السوري المغرر به في دمشق، وكانت تلعب دوراً سرياً في توريد أجهزة إلكترونية لحساب البرنامج الكيميائي السوري، ما سمح لفريق التجسس الفرنسي ــ الإسرائيلي باختراق ذلك البرنامج العسكري السرّي، وتوجيه ضربات عسكرية إسرائيلية لتدمير بعض المواقع الحساسة في سوريا أو تخريبها، ومن بينها موقع «السفير» العسكري الذي قالت الصحيفة الفرنسية إنه كان مخصصاً لتزويد صواريخ باليستية برؤوس كيميائية مشحونة بغاز VX.
ووفق رواية «لو موند» دائماً، فإن المعلومات التي تم تجميعها عن طريق عملية «Ratafia» هي التي سمحت بإعداد ملف عسكري عن أسرار البرنامج الكيميائي السوري، رُفع إلى البيت الأبيض بعد انفجار الأزمة السورية. واستناداً إلى المعلومات المقلقة التي تضمنها ذلك الملف، أطلق الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما تحذيره الشهير الذي اعتبر استعمال السلاح الكيميائي في سوريا خطاً أحمر، مهدداً بالتدخل عسكرياً ضد النظام السوري، في حال خرق هذا المحظور.
وأضافت «لو موند» إن المعلومات التي كشفتها عملية «Ratafia» عن المواقع السرية لتخزين السلاح الكيميائي في سوريا هي التي اعتُمدت لتحديد خطة الضربات الجوية الأميركية ــ البريطانية ــ الفرنسية، التي كان مزمعاً القيام بها في أواخر شهر آب 2013. وذلك قبل أن تُلغى تلك الضربات، في آخر لحظة، بسبب إحجام الرئيس الأميركي السابق عن المشاركة فيها من دون حليفه البريطاني، إثر رفض مجلس العموم الخطة العسكرية التي تقدّم بها رئيس الحكومة آنذاك ديفيد كامرون.
حتى هنا، تبدو القصة محكمة ومثيرة. فالأساليب المذكورة تُعدّ من الألاعيب الاستخبارية الدارجة، التي يلعب من خلالها الخبراء النفسيون دوراً لا يقل أهمية عن زملائهم العسكريين في عمليات استدراج الضحايا والتلاعب بها، من دون أن تنتبه بأنها مُقدِمةٌ على عمليات خيانة أو تعاون مع جهاز معادٍ.
ومن الدارج أيضاً تعمد تسريب أسرار مثل هذه العمليات لاحقاً لوسائل الإعلام، بهدف الترويج لقصص «بطولية» تمجّد المنجزات الأمنية لأجهزة استخبارات «العالم الحر» في مواجهة «الأشرار» الذين يهددون «السلام العالمي». ويحرص الموساد تحديداً على إبراز «الأدوار الريادية» التي يلعبها رجاله في مساعدة أجهزة استخبارات الدول الكبرى في التصدي للنشاطات المعادية لمصالح الغرب.
لكن الشيطان يكمن دوماً في التفاصيل. فعلى هامش القصة الرئيسيّة التي أبرزتها «لو موند» على صفحة كاملة، أُدرج كادر إضافي ورد فيه أن نجاح عملية «Ratafia» برهن عن تعاون وثيق وفعال بين ضباط الموساد والمخابرات الداخلية الفرنسية ضد ما اعتبر عدواً مشتركاً. لكن ذلك لم يمنع الجهازين من استغلال التماس الذي سمحت به تلك العملية لمحاولة التجسس بعضهما على بعض!
مقالة «لو موند» ربطت بين عملية «Ratafia» وفضيحة اختراق الموساد لجهاز الاستخبارات الداخلية الفرنسية، التي كُشفت في شهر تشرين الثاني الماضي (راجع «الأخبار» عدد 15 تشرين الثاني 2016)، على أثر محاكمة مدير الاستخبارات الداخلية الفرنسية، في عهد ساركوزي، برنار سكوارسيني. وذكّرت الصحيفة بأن الموساد استغلّ عمل ضباطه مع زملاء لهم من جهاز الاستخبارات الداخلية الفرنسية لمحاولة استقطابهم، بشكل غير مباشر، عبر إقامة صلات صداقة عائلية لهم، ودعوتهم إلى رحلات صيد في دبي وإجازات سياحية في القدس، ثم استدراجهم لمعرفة معلومات سرية سمحت بزرع أجهزة تجسس إلكترونية في كومبيوترات جهاز الاستخبارات الداخلية الفرنسية.
وذكرت الصحيفة أن الطرف الفرنسي قام بنشاط تجسس مماثل من خلال تكليف فريق متخصص في مكافحة التجسس لتقصي آثار ضباط الموساد الذين اشتغلوا في العاصمة الفرنسية ضمن عملية «Ratafia»، وتصويرهم بشكل سري. وفضلاً عن كون هذه المعلومة لم ترد في المحاضر القضائية التي كشفت في تشرين الثاني الماضي، فإن من المستغرب أن تُكلف الاستخبارات الفرنسية فريقاً ثانياً بالتجسس على ضباط الموساد المذكورين، لأنهم كانوا ينشطون ضمن عملية مشتركة ومعروفة من قبل المخابرات الفرنسية. كما أن المحاضر القضائية التي كُشفت في تشرين الثاني الماضي لم تشر إلى أي نشاطات لشركة الإلكترونيات التي أسسها ضباط الموساد في باريس، في ما يتعلق بالبرنامج الكيميائي السوري. بل اتُّهمت تلك الشركة فقط بزرع أجهزة تجسس في كومبيوترات جهاز الاستخبارات الداخلية الفرنسية. وكان المدير السابق لهذا الجهاز، برنار سكوارسيني، قد قال أثناء استجواب المحققين له إنه يستغرب لماذا تم التستر على نشاطات تلك الشركة، مضيفاً إنه اكتشف بالصدفة، لاحقاً، أن ضابط الموساد الذي يديرها، متخذاً صفة رجل أعمال إيطالي، عاد الى باريس، وواصل نشاطاته «التجارية»، بعدما كان قد طُرد من البلاد إثر كشف فضيحة اختراق كومبيوترات جهاز الاستخبارات الداخلية الفرنسية.
ويُجهل ما هو الهدف الحقيقي من هذه الرواية المريبة التي ربطت «لو موند» من خلالها بين شركة الإلكترونيات الإسرائيلية التي اخترقت أسرار المخابرات الداخلية الفرنسية وبين عملية التجسس على البرنامج الكيميائي السوري. وهل القصد من ذلك التخفيف من فداحة تلك الثغرة الأمنية التي جعلت أسرار الدولة الفرنسية مكشوفة للموساد؟ أم هل تندرج القصة ضمن دعاية استخبارية، القصد منها ممارسة «الحرب النفسية» لامتحان ردود فعل دمشق حيال كشف معلومات تزعم أن شخصاً مرتبطاً بابنة أحد أقطاب النظام السوري تم الإيقاع به من قبل الموساد، واستُدرج لنقل أسرار عسكرية سورية لجهات معادية؟




الشركة الإسرائيلية والبرنامج الكيميائي

قال مصدر دبلوماسي، تحدثت إليه «الأخبار» في باريس، تعليقاً على ما نشرته «لو موند» بخصوص عملية Ratafia المشتركة بين الموساد والاستخبارات الداخلية الفرنسية، إنه «لا وجود لأي قرائن مؤكدة، في حدود علمي، من شأنها أن تثبت وجود صلات بين شركة الإلكترونيات الإسرائيلية، التي أسسها أحد ضباط الموساد في باريس، منتحلاً هوية رجل أعمال إيطالي، وبين عمليات التجسس على البرنامج الكيميائي السوري».
وأضاف المصدر، الذي كان قد تابع عن قرب المبادلات الدبلوماسية التي جرت في العاصمة الفرنسية، خلال الإعداد لضربات جوية ضد سوريا، رداً على الهجوم الكيميائي الذي وقع في غوطة دمشق في آب 2013، إن الملف العسكري الذي أعدّته آنذاك أجهزة الاستخبارات الفرنسية والبريطانية والألمانية والأميركية «لم يشر سوى إلى ثلاث شركات اشتُبه في ضلوعها بتوريد التجهيزات الإلكترونية سراً لحساب البرنامج الكيميائي السوري، وهي شركات: Syronics وIndustrial Solutions وMechanical Construction Factory. وهي جميعها شركات عمومية مملوكة للدولة السورية. ولم ترد أي إشارة في الملف المذكور الى شركات خاصة أو مملوكة لرجال أعمال مقربين من النظام السوري».