دمشق | عندما تسارعت وتيرة هجرة السوريين نحو دول اللجوء الأوروبية في السنوات الأخيرة، كان هناك من يعتقد جازماً أنَّ الأعداد الهائلة التي فرّت من الحرب، كانت، بما جمعته من مبالغ مالية لتغطية نفقات «رحلة الموت»، سبباً رئيسياً في تدهور سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأميركي.
اليوم تغير المشهد كلياً، فهؤلاء المهاجرون واللاجئون، باتوا، بما يرسلونه إلى ذويهم من إعانات مالية صغيرة بشكلها الفردي، عاملاً مؤثراً وداعماً لتحقيق استقرار ما في سعر صرف الليرة، وهذا ما دفع مركز دمشق للأبحاث والدراسات إلى المطالبة صراحة «برفع وإيقاف الملاحقات الأمنية (مؤقتاً) التي تستهدف قنوات تحويل القطع الأجنبي من الدول الأوروبية إلى الداخل السوري، والتي تجري عبر مجموعة من الأفراد يحوّلون الأموال عبر استخدامهم لقنوات الاتصال المشفرة (الفايبر، الوتس أب... وغيرها)».

«سيروم» سوق القطع

مع فقدان البلاد لمصادر إيراداتها التقليدية من القطع الأجنبي بفعل الحرب والعقوبات الخارجية، باتت الحوالات المالية الخارجية للمغتربين والعاملين في مناطق مختلفة من العالم المصدر الرئيسي، ويكاد يكون الوحيد أحياناً، لإيرادات البلاد من القطع الأجنبي. بتعبير آخر، يصف نائب الرئيس التنفيذي لبورصة دمشق، الدكتور كنان ياغي، الحوالات الخارجية بأنها «السيروم الذي يعتاش عليه سوق القطع». ويشير في تصريح لـ«الأخبار» إلى أنّ ذلك «يعني ضرورة المحافظة على استمرارية تدفق تلك الحوالات بشكلها النظامي، وتخفيف القبضة الأمنية على بعض الحوالات الواردة عبر السوق الموازية، ونقصد بذلك الحوالات غير المشبوهة أو التي يمكن أن تستخدم في تمويل الإرهاب، ومثالنا على ذلك يكمن في حوالات اللاجئين السوريين الموجودين في الدول الأوروبية»، التي تشير التقديرات إلى أنها في زيادة مطّردة، بالنظر إلى استمرار تدهور الأوضاع المعيشية وزيادة عدد اللاجئين في الدول الأوروبية. إذ بحسب ما يذكر الصحفي السوري المقيم في ألمانيا تامر قرقوط، إنّ «هذه الظاهرة تنتشر بنحو لافت، ولها حضور ملموس في حياة اللاجئين، رغم ضآلة المبالغ التي تشكلها كل حوالة، لكن فوارق أسعار الصرف بين الليرة واليورو، تجعل من هذه المبالغ ذات قيمة كبيرة في الداخل السوري».

تصل نسبة عمولة
الشخص الذي يقوم بالتحويل
إلى 12%

ويضيف في اتصال مع «الأخبار» إلى أنَّ «معظم اللاجئين في ألمانيا يحوّلون أموالاً لذويهم لمساعدتهم في توفير متطلبات حياتهم الصعبة، أو لسداد ديون سابقة، أو سداد تكاليف رحلة الهجرة التي وصلت قيمتها وسطياً إلى نحو 1500 دولار للشخص الواحد».
لكن كيف يجري تحويل تلك المبالغ؟ ولماذا تجري بطرق غير نظامية، ما دامت تخضع لشروط ولنسب عمولة أعلى أحياناً من القنوات النظامية؟
لا تتيح أنظمة اللجوء وقوانينها في الدول الأوروبية للاجئ تحويل أي مبالغ مالية إلى الخارج. وللتأكد من عدم حدوث ذلك، تفرض الحكومات رقابة مالية ومصرفية صارمة، وإذا ما تأكد لها تحويل أي لاجئ أموالاً أو التصرف بما يخصص له شهرياً على غير المسموح، فإن ذلك يعرضه للمساءلة ولإجراءات خاصة. أمام هذا الواقع، وجد عدد من اللاجئين، كما يؤكد الصحفي قرقوط، فرصة «للعمل في تحويل الأموال بنحو غير مشروع، واستغلال مواطنيهم، وذلك من خلال فرض شروط صعبة، أهمها أنّ التحويل يجري باليورو والتسلّم في سوريا يكون بالليرة السورية، ووفقاً لسعر الصرف الذي يُتَّفَق عليه، وغالباً ما يكون في غير مصلحة اللاجئ الذي يحول المال، وتصل أحياناً نسبة عمولة الشخص الذي يقوم بالتحويل إلى 12%».
ثلاثة أسباب
لا تتوافر إلى الآن أي بيانات إحصائية عن حجم ظاهرة حوالات اللاجئين أو إجمالي القيمة اليومية أو الشهرية لها، لكن ذلك لا يلغي مؤشرين اثنين يتفق عليهما المتابعون للشأن الاقتصادي المحلي: الأول أنَّ هذه الظاهرة أصبحت تشكل نسبة لا يستهان بها من إجمالي قيمة الحوالات المالية الخارجية. والمؤشر الثاني يتمثل في أنَّ حوالات اللاجئين تحولت إلى مصدر دخل رئيسي لكثير من العائلات السورية، فضلاً عما تشكله الحوالات الواردة باليورو من سوق القطع الأجنبي في البلاد. ولا يخرج رأي قرقوط عما سبق، إذ «من الصعب تحديد قيمة هذه الحوالات، لكونها تجري في مجملها في الظل، لكن يمكن تقديرها بأنّ كل لاجئ قد يتمكن من تحويل 100 يورو مرة كل شهرين، مع الأخذ بالحسبان أنَّ اللاجئ هنا، هو كل فرد يتقاضى راتباً بشكل منفصل عن الآخر، بمعنى أنَّ الاسرة الواحدة مهما كان عدد أفرادها تعدّ لاجئاً واحداً. مع الانتباه إلى أن هذه الحوالات هي حصيلة شد الأحزمة الذي يمارسه اللاجئ، وضمن سياسة التقشف القاسية التي يتبعها لتوفير القليل من المال».
من كل ذلك، يحدد الدكتور ياغي ثلاثة أسباب أساسية لتخفيف الملاحقات الأمنية على تلك الحوالات، أولها أن قيم هذه الحوالات لا تتجاوز في أحسن الأحوال 500 دولار، وبالتالي فهي لا يمكن أن تستخدم لغسيل الأموال أو تمويل الإرهاب، فالحوالات التي تجري لتحقيق ذلك تكون بسرية أكثر وبقيم كبيرة. ثاني الأسباب أن عملية التحويل تجري من الدول الأوروبية إلى الداخل السوري وباتجاه واحد فقط، وعلى ذلك فهي تمثل مورداً جيداً للقطع الأجنبي، حتى لو كانت تصرف في السوق الموازية. أما ثالث الأسباب، فيكمن في عدم قدرة اللاجئ بحكم القوانين الأوروبية على استخدام شركات الصرافة والبنوك لتحويل ما يرغب إلى عائلته داخل البلاد، أي إنه مجبر على التعامل مع السماسرة وشبكات السوق السوداء.
وتوضيحاً للأهمية التي باتت تشكلها عموماً الحوالات المالية الخارجية في حياة السوريين، يذكر مسح الأمن الغذائي، الذي كان قد نفذه برنامج الغذاء العالمي مع الحكومة السورية، أن أكثر من نصف نسبة الأسر (53% تقريباً) حصلت على دعم مالي من أحد أفرادها المقيمين في الخارج. ومن بين هذه الأسر يؤكد المسح أن 43% هي أسر غير آمنة غذائياً، و48% أسر معرضة لانعدام الأمن الغذائي، إضافة إلى نسبة 9% من الأسر الآمنة غذائياً. وتشير بيانات المسح إلى أن تلقي الأسر للدعم المالي من أحد أفرادها في الخارج لا يقتصر على الأسر المقيمة، بل شمل أيضاً الأسر النازحة غير الآمنة أو المعرضة لانعدام الأمن الغذائي وبنسبة تصل إلى 15% لكل فئة، وشمل ذلك أيضاً الأسر المقيمة المعرضة لانعدام الأمن الغذائي 31.7% وغير الآمنة غذائياً 27%.