على الرّغم من الأهميّتين الميدانيّة والرمزيّة لإعلان الجيش السوري أمس تحرير مدينة تدمر، غيرَ أنّ تطورّات منطقة منبج (ريف حلب الشرقي) تحظى في الموازين الاستراتيجيّة بأهميّة مضاعفة، لا سيّما أنّ تحرير تدمر يأتي تحصيل حاصلٍ للتقدّم المطّرد للجيش وحلفائه في ريف حمص الشرقي.
وتبدو أبواب منبج مشرعةً على جملة تطورات ليس التوافق بين دمشق و«قسد» (قوات سوريا الديمقراطية) على تسلّم الدولة السورية عشرات القرى والبلدات سوى مقدمة لها. كذلك تؤكّد جملة معطيات متوافرة أنّ ما يدور في منبج يبدو مؤهّلاً ليترك انعكاسات مباشرة على أجزاء واسعة من ريف حلب الشمالي، وهو في الوقت نفسه سيترك تأثيراً حتميّاً على معارك الشرق السوري بأكمله بدءاً من الرقّة وصولاً إلى دير الزور والحدود العراقيّة.
وجاء بيان «المجلس العسكري لمنبج وريفها» (أحد حلفاء «قسد») أمس ليعلن عن اتفاق يقضي بتسليم «القرى الواقعة على خط التماس مع «درع الفرات» والمحاذية لمنطقة الباب في الجبهة الغربية لمنبج إلى قوات حرس الحدود التابعة للدولة السورية»، وذلك بغية «حماية المدنيين وتجنيبهم ويلات الحرب والدماء وحفاظاً على أمن وسلامة مدينة منبج وريفها وقطع الطريق أمام الأطماع التركية باحتلال المزيد من الأراضي السورية». ورغم تأكيد البيان أنّ الاتفاق تمّ «مع الجانب الروسي»، غيرَ أنّ مصادر عدّة أكّدت لـ«الأخبار» أنّ «اجتماعاتٍ مكثّفة عُقدت خلال الأسبوع الأخير بين شخصيات أمنية وعسكريّة سوريّة، وقياديين من (قسد)، لعب مركز حميميم دور الوسيط والراعي فيها». المصادر أكّدت أنّ «ما تمّ بحثه في الاجتماعات يتجاوز أمر تسليم بضع قرى»، وأنّ «المحادثات ما زالت مستمرّة، وما أُعلن عنه هو فقط ما حُسم أمره». وتشير معلومات «الأخبار» إلى أنّ اتفاق منبج لا يقتصر فقط على القرى المحاذية لـ«خط التماس» مع «درع الفرات»، بل يتعدّاها «ليشكّل ما يشبه طوقاً ممتدّاً حتى الحدود الإدارية بين منبج وجرابلس». وإذا صحّت هذه الأنباء، فإنّها تعني تغيّراً جذرياً في شكل الميدان بأكمله، وتضع القوات السورية على نقاط لم تصلها منذ سنوات، سواء في ما يتعلّق بالقرب من الحدود التركيّة، أو ما يتّصل بضفاف نهر الفرات. وليس من الواضح بعد ما إذا كانت أنباء «اتفاق منبج» تأتي مقدمة لشقاق بين «المجلس العسكري» و«قسد»، لا سيّما أن الأخيرة لم تُعلن «رسميّاً» عنه.

اجتماعات بين شخصيات سوريّة وقياديين من «قسد» لعبت موسكو دور الوسيط فيها

وعلمت «الأخبار» أن بعض الأصوات داخل «مجلس سوريا الديمقراطيّة» ما زالت تعارض الإقدام على خطوة من هذا النوع. ورغم أن «الرئيس المشترك للمجلس» رياض درار قد أكّد الاتفاق عبر صفحته على موقع «فايسبوك»، غير أنّ المعارض المقيم في النمسا يُعتبر «وافداً جديداً إلى المجلس» وبعيداً عن الأرض. وكان درار قد قال إن «النظام ما زال خصماً لنا، ولكن لا يعني ذلك تسليم الأتراك أرضنا». وثمّة علامات استفهام كثيرة تحيط بملابسات «اتفاق منبج»، لا سيّما ما يتعلّق بموقف الولايات المتحدة التي تحدّثت مصادر ميدانيّة كرديّة عن إرسالها جنوداً إلى المنطقة ليشكلوا «حاجزاً» يمنع «درع الفرات» من محاولة اقتحامها. ويبدو بديهيّاً أنّ «قسد» لن تُقدم على عقد اتفاقات من أي نوع من دون «مشاورة» مع الولايات المتحدة. ويغدو التساؤل عن الموقف الأميركي ضرورةً حتميّة في ظل احتمال تحوّل منبج إلى أضيق نطاقٍ يضم جنوداً سوريين وآخرين أميركيين في الوقت نفسه. ورغم أنّ الدولة السورية تحتفظُ بنقاط سيطرة في مدينة الحسكة التي تقيم الولايات المتحدة قواعد عسكرية في ريفها باتفاق مع «قسد»، غيرَ أنّ المسافات التي تفصل بين الطرفين كبيرة في الحسكة، خلافاً لما يُمكن أن تكون عليه الحال في «نطاق منبج». مصدر سوري أكّد لـ«الأخبار» أنّ «سوريا لا تنتظر رأي أحد، ولا يعنيها الأمر، خاصة حين يتعلّق بأراضٍ سوريّة».
المصدر قال إنّ «ظروف الحرب التي تُخاض ضد سوريا قد تجعل بعض المناطق خارج الحسابات مؤقتّاً، لكنّ الأمور لا تلبث أن تعود إلى ما ينبغي أن تكون عليه». اللافت أن المصدر تحفّظ على الخوض في أي تفصيل حول الاتفاق المذكور، ولم يؤكّد أو ينفي حدوثه، مكتفياً بالقول «حين تقتضي الحاجة تصدرُ تصريحات رسميّة». وفيما لم يصدر حتى مساء أمس أي تصريح رسمي من دمشق أو موسكو، سارعت أنقرة إلى الإدلاء بدلوها على لسان وزير خارجيّتها مولود جاويش أوغلو.
ونقلت وكالة «الأناضول» عن المسؤول التركي تصريحات ناريّة تكرّرت فيها التهديدات التركيّة لأكراد سوريا، فيما حرصت في الوقت نفسه على الكشف عمّا يمكن تسميته «اتفاق عدم اعتداء» بين قوات الاحتلال التركي والمجموعات المنضوية تحت لواء «درع الفرات»، والجيش السوري. وأكّد جاويش أوغلو أنّ «تركيا وروسيا اتفقتا بخصوص عدم وقوع مواجهة بين المعارضة السورية المعتدلة وقوات النظام، خصوصاً في محيط الباب، وحددنا طريقاً في المنطقة كحدود مؤقتة بين الجانبين». وأضاف «قوات النظام لن تعبر نحو الشمال، والمعارضة المعتدلة لن تعبر نحو الجنوب، والهدف هو منع وقوع اشتباكات بينهما، ولمواصلة العمليات بشكل فعال ضد (داعش)». وتتضمن تصريحات المسؤول التركي إقراراً غير مباشر بما سبق أن أشارت إليه «الأخبار» في شباط الماضي حول «تفاهمات حذرة» بين دمشق وأنقرة عبر موسكو في ما يتعلّق بمعركة الباب، كمقدمة يمكن أن يُبنى عليها في معارك الشرق السوري (راجع «الأخبار»، العدد 3100). في الوقت نفسه، حرص جاويش أوغلو على نفي صحّة «الأنباء التي تداولتها بعض وسائل الإعلام حول سماح روسيا و(ب ي د) بسيطرة قوات النظام على مناطق غرب مدينة منبج».
وربّما كان الحرص التركي على الكشف عن وجود اتفاقات عبر موسكو يهدف إلى التشويش على التقارب المستمر بين دمشق و«قسد»، لكنّه في الوقت نفسه قد يترك أثراً معاكساً ويدفع الأخيرة قُدماً نحو دمشق، لا سيّما في ظل التهديدات التركية المستمرّة. وليس من المتوقّع أن تكتفي أنقرة بدور المتفرّج على «عدوّيها» وهما يعملان على تفريغ «درع الفرات» من أي مكاسب استراتيجيّة ويقومان بتطويقها ميدانيّاً.
وتبرز في هذا السياق معلومات عن قيام المدفعيّة السورية بتقديم إسناد ناري لـ«مجلس منبج العسكري» خلال تصديه لهجوم «درع الفرات» في ريف منبج الغربي. ورغم أن تهديدات أنقرة المتتالية تركّز على منبج وتواصل الحشد على تخومها الشماليّة، غيرَ أن مسرح ردّ الفعل التركي قد يتوسّع ليشمل مناطق أخرى لا تحفّظات أميركيّة في شأنها. وتأتي على رأس تلك المناطق منطقة تل رفعت (ريف حلب الشمالي)، لا سيّما في ظل وجود عديد لا يُستهان به من المسلّحين المحسوبين على تركيا يتمركزون في مدينة أعزاز. ولا تستبعد مصادر أن تعمد أنقرة إلى تحويل تل رفعت ميداناً لـ«معركة استنزاف» لمقاتلي «قسد». وفوّتت الأخيرة قبل فترة قصيرة فرصة تسليم بعض النقاط المهمّة في المنطقة، وعلى رأسها منغ، إلى الدولة السوريّة، بعد أن عُطّل اتفاق كان وشيكاً بين الطرفين («الأخبار»، 3102). وأمس أفادت معلومات حصلت عليها «الأخبار» عن «تجدّد الحديث في هذا الشأن بين الطرفين»، غير أن المصادر أكّدت «وجود صعوبات كثيرة تجعل الوصول إلى اتفاق مماثل أمراً صعباً ويحتاج إلى نضوج جملة ظروف».