لم يكن الرئيس الفرنسي شارل ديغول بخلفيته العسكرية مستعداً لأن يستمع لمداخلات دبلوماسية معتادة ومطولة تمهد للحوار وأهدافه.وكان ضيفه القادم من القاهرة، مقدراً دوره التاريخي في الحرب العالمية الثانية كأحد أبطالها الكبار، قد هيأ نفسه في طريقه لـ«قصر الإليزيه» لسيناريو يسجل فيه ــ أولاً ــ ما رأى أن الرجل يستحقه بأدواره الاستثنائية في تحرير بلاده من الاحتلال الألماني من تحية ينقلها إليه باسم الرئيس المصري جمال عبد الناصر... ثم ينتقل ــ ثانياً ــ إلى العلاقات التاريخية والتقليدية بين فرنسا ومصر، ويؤكد على استمرارها... قبل أن يصل ــ ثالثاً ــ إلى رسالته وموضوعها.

«عال يا مسيو هيكل.. قل لي ماذا تريد بالضبط؟».
«سقطت كل التمهيدات التي هيأت نفسي لها ذات صباح من سبتمبر عام ١٩٦٧».
«التفت إلى أن الرجل التاريخي يجلس خلف مكتبه على فوتيل، كبير لكنه ثابت، لا يتحرك يميناً أو يساراً على ما اعتاد زعماء آخرون، وأن المباشرة من مقومات شخصيته وطبائع تجربته».

ديغول: انظر يا مسيو هيكل، هذه مساحة العالم العربي وهذه مساحة إسرائيل، الهزيمة التي لحقت بكم مؤقتة بطبيعة الجغرافيا والحقائق السكانية فوقها... ومن ينظر عندكم إلى الخريطة لا بد أن يستشعر ثقة

«دخلت إلى موضوعي وفيه رهان لجمال عبدالناصر على دور لديجول بعد نكسة يونيو يخفف من وطأة الانحيازات الغربية لإسرائيل».
أكثر ما استلفت انتباهه في ذلك اللقاء عناية ديغول بالخرائط، «وهذه من طبائع العمل العسكري فالمعارك تجرى على مواقع وخطوط الاشتباك تتداخل وتمتد والتخطيط يتصل بالخريطة وتضاريسها والحقائق الإنسانية فوقها».
طلب ديغول خريطة وضعها أمام ضيفه: «انظر أمامك يا مسيو هيكل.. هذه مساحة العالم العربي.. وهذه مساحة إسرائيل، الهزيمة التي لحقت بكم مؤقتة بطبيعة الجغرافيا والحقائق السكانية فوقها، الوضع لا ينبغي أن يخيف، ومن ينظر عندكم إلى الخريطة لا بد أن يستشعر ثقة في مسار المستقبل».
بلغة الخرائط أجاب ديغول على رسالة عبدالناصر: «اطمئن».. وكان ذلك أكثر مما توقعت القاهرة من باريس في أحوال ما بعد ٥ يونيو.
في ذلك الصباح ترسخ لديه «أن الصحافي بدوره لا يقدر على قراءة المشاهد المتحركة بتفاعلاتها وتعقيداتها ما لم تكن الخريطة ماثلة أمامه».
في حواراته المطولة مع صديق ديغول ووزير ثقافته أندريه مالرو، صاحب رواية «الأمل»، تبدت نقطة تنوير جديدة لدوره هو في تجربة أخرى على الجانب الآخر من المتوسط. كلاهما ارتبط برجل تاريخي، أحدهما اقترب برؤية المثقف والآخر بموهبة الصحافي.
ذات صباح آخر على مائدة إفطار في بيته دار حوار مثير في موضوعه وتفاصيله مع الدكتور إدوارد سعيد صاحب «الاستشراق» حول المثقف والسلطة.
كان رأي سعيد، وقد نشرته ضمن حوار معه منتصف تسعينيات القرن الماضي: «المثقف يكف أن يكون مثقفاً عندما يقترب من السلطة».
سألته: «حتى أندريه مالرو؟!».
أجاب سعيد بتحدي المثقف الكبير، الذي يعتقد في سلامة أطروحته: «نعم».
وكان رأي هيكل: «أن التعريف على استقامته فيه تعسف، فماذا يفعل مالرو وصديقه الجنرال الذي أعلن المقاومة بعد هزيمة بلاده واحتلال عاصمتها أصبح رئيساً لفرنسا؟.. هل تقترح أن يقطع علاقته به وأن يعترض على تولي وزارة الثقافة الفرنسية حتى يكون بالتعريف مثقفاً؟».
في نهاية مساجلة بين صديقين، أبدى سعيد تفهمه أن هناك حالات في التاريخ تستعصي على التعريف الذي اعتمده تدخل فيها علاقة محمد حسنين هيكل بجمال عبدالناصر.
في التجربة الفرنسية تجلت أمامه حقيقة جديدة هي أن قراءة الخرائط وتفاعلات الحوادث فوقها تتخطى خطوط الجغرافيا الصامتة إلى سؤال الثقافة بين سكانها.
وبدت إيماءة ديغول إلهاماً جديداً لعناية أكبر بالخرائط أخذت بالوقت تتسع حتى احتلت نسخاً نادرة لثلاث خرائط مصرية قديمة حائطاً خلف مكتبه وأزاحت لوحات تشكيلية لفنانين كبار عالميين ومصريين.
كانت الخرائط سيدة المكان بلا منازع.


(١)


في قصته مع الخرائط احتفظت ذاكرته بحواراته مع المفكر المصري الدكتور جمال حمدان، وهي مثيرة في وقائعها ومجهولة في أسرارها.
كلاهما كان شاغله الرئيسي «الجغرافيا والتاريخ».
أحدهما، قضيته الجغرافيا وعبقرية المكان فيها يقرأ ثوابتها من نافذة التاريخ وتحولاته.
والآخر، قضيته التاريخ ووثائقه في رواية الصراع على مصر والمنطقة يطل على وقائعه من فوق تضاريس الجغرافيا وثوابتها.
«قرأت له قبل أن أعرفه، درس في جامعة ريدنج البريطانية لكنه انتمى إلى المدرسة الألمانية الأكثر جدية في دراسة الجغرافيا، وهي مدرسة تنتمي إلى إمبراطورية متشوقة لمستعمرات لم تحصل عليها باستثناءات سبقت الحرب العالمية الأولى.. الاستكشاف عندها سبق معرفي دون أن يكون مرتبطاً بمصالح محققة».
«استمعت إلى قصص تروى عن عزلته في محراب فكر، لا يتصل بالعالم حوله، يخرج من منزله قليلاً ولا يفتح بابه لأحد إلا بإجراءات واتفاقات مسبقة، وتقصر الزيارات على من يطمئن إليه وعددهم يحصى على أصابع يد».
طرأت فكرة اللقاء الأول مع جمال حمدان في حوار بمكتبه مع الكاتب الصحافي مصطفى نبيل، وهو من أبرز المثقفين المصريين والعرب في ربع القرن الأخير، تولى لسنوات طويلة رئاسة تحرير مجلة «الهلال».
في ذلك الصباح تطرق الحوار بينهما إلى صاحب عبقرية مصر، شخصيته وعزلته، إسهاماته وكتاباته، وهل يمكن أن يقنعه أحد بالخروج من العزلة التي طالت إلى رحابة الحياة.
أسهب مصطفى في الحديث عن «راهب الجغرافيا»، وكل حرف يقوله مصدق، فلا أحد غيره تفتح له الصومعة المغلقة على صاحبها باستثناء أسرته تأتى إليه لتوفر احتياجاته.
«قال مصطفى: جمال يريد أن يراك.. ولم أكن في حاجة إلى تفكير فأنا كنت أتطلع بدوري إلى رؤيته».
في الموعد المحدد وصلا معاً إلى شقة جمال حمدان في حي الدقي.
مرة بعد أخرى طرق مصطفى باب الشقة على الطريقة المتفق عليها حتى يعرف من بالخارج، لكن لا أحد يستجيب.
بدأ بدوره يطرق الباب على نفس الطريقة، ولا أحد يفتح باباً، أو يصدر صوتاً أن خلفه حياة.
اقترح مصطفى أن يعودا إليه في يوم آخر بعد التأكيد على صاحب البيت حتى يفتح بابه، لكن هيكل أبَى، فقد كان مهيئاً تماماً للقاء تطلع إليه مع رجل بدا أمامه عبقرياً وغامضاً.
«عبقريته في كتاباته وغموضه في حياته».
الصحافي فيه تحرك على نحو لم يكن ممكناً معه أي انتظار لموعد جديد.
خرج إلى الشارع وبصحبته مصطفى.
التقط حجراً صغيراً وقذفه على شرفة الشقة، التي تقع بالطابق الأرضي، لعل ضجيجاً يوقظه من نوم، أو يذكره بأن هناك موعداً ــ على ما روى لي بعد سنوات طويلة رفيقه في الزيارة المثيرة لمفكر الجغرافيا والخرائط.
سألت الأستاذ: «هل قذفت حجراً على شرفة شقة جمال حمدان؟!».
ضحك قائلاً: «دع القصة يرويها لك صديقك مصطفى نبيل».
كيف كان اللقاء الأول؟
«من خلف باب موارب رأيته مرتدياً روب أحمر فوق ملابس البيت».
«كان الرجل يعد الطعام لنفسه في مطبخه وغرفة الاستقبال لم تخضع لعناية منذ فترة».
«لم يكن المشهد يليق بمفكر من حجمه أثرت كتاباته في مجرى التفكير العام، ولفتت إلى دور الجغرافيا في حياة المصريين».

«سألته: ليه كل ده؟».
«بدا رجلاً تعرض لصدمة إنسانية فاقت طاقته على احتمالها لدرجة أنه أخذ يعاقب نفسه».
«سألته: لماذا هذه العزلة وإسهاماتك مراجع كبرى للباحثين والمثقفين والمعنيين بالشأن العام.. لماذا تفعل ذلك بنفسك وأنت الآن مؤثر لحدود لا تتصورها في التفكير العام».
«أنت تعيد فكرة الرهبنة المصرية بالعزلة في الخلاء لكنك منعزل في فوضى».
«طالبته بأن ننتقل إلى مكان آخر يصلح للحوار فيه، أن يرى الحياة الطبيعية فربما تغريه بالعودة إليها».
بعد قليل ذهب الرجال الثلاثة إلى فندق شهير بحي الدقي يطل على النيل.
في الحوار لطف إنساني بدأه حمدان: «إنك تتصرف كلورد إنجليزي رغم صداقتك لجمال عبدالناصر؟».. مشيراً إلى سيجار في يده يشعله بثقاب.
ابتسم لملاحظته سائلاً عما إذا كان يريد أن يدخن سيجاراً آخر يحتفظ به.
أخذ حمدان ينفث دخانه في الهواء ناظراً إلى جريان نهر النيل والحوار يتدفق بعمق.
تدفقت تساؤلات هيكل على صاحب «عبقرية المكان»: «ما الذي جرى للمكان وعبقريته وكيف وصلنا إلى هنا؟».
«إلى أين حركة التاريخ ذاهبة في هذا الموقع من العالم؟».
أجاب حمدان عن فيض تساؤلاته بكبرياء حزنه: «حركة التاريخ الدائمة قد تكون أحياناً إلى أسفل.. شهدنا انقلاباً لأنه كان بين السكان من لم يقدِّر ولم يرع حرمة وحق المكان».
شيء مما دار بينهما سجله في مقدمة كتابه «أكتوبر ٧٣ ــ السلاح والسياسة»، الذي أهداه إلى «ذلك العالم المصري الفذ»، غير أنه لم يدخل في جو الحوار، ولا تطرق إلى بعض الأسئلة التي طرحها عليه الدكتور جمال حمدان في حضور مصطفى نبيل، التي سجلها كتابة كما طلبت وألححت.
[كيف تسكت يا أستاذ هيكل على ما يجري في مصر؟
أجاب الأستاذ: وماذا تريد أن أفعل؟
قال حمدان: لا تقل لي ما تردده أنك مجرد كاتب صحافي، فهذا غير صحيح، أنت زعيم سياسي يسلم بزعامته الكثيرون، فكيف لا تقود الشعب في ثورة لإسقاط المعاهدة المصرية الإسرائيلية، خاصة أنك تتمتع بالثقة وبميزات لا يتمتع بها سواك، ولديك تجارب ومعرفة عميقة بالمسرح الدولي والأوضاع المحلية، عادة لا يتقن الحديث من يحترف الكتابة، ولكنك تتقن بالوقت نفسه الكتابة الراقية والحديث المقنع، وعادة لا يعرف التفاصيل من هو غارق في الكليات، لكنك تجمع بين المعرفة الدقيقة بالتفاصيل والكليات معاً، وعادة لا يعرف الفيلسوف المسائل العملية ولا يتقنها، وأنت تعرف الفلسفة ولديك قدرة عملية كبيرة، وعادة ما يكون المفكر السياسي غير محترف السياسة وممارساتها، لكنك مفكر سياسي في ذات الوقت.
فلماذا لا تقود أهل مصر في طريق الخلاص؟
أجاب هيكل عن فيض تساؤلاته: لقد جئت إليك حتى أسمع منك، ما تفسيرك لتدهور موقف مصر السياسي؟ ولماذا رحب البعض بهذه الاتفاقية؟
قال حمدان في كلمة كالرصاص: إنه الطغيان].
قرب نهاية ذلك اللقاء الأول اتفقا على طريقة للاتصال المباشر لتحديد موعد لحوار آخر، أن تكون هناك رنة هاتف واحدة تتبعها رنتان بينهما فاصل.
وفي اللقاء الثاني بمكتب هيكل تبادلا الأدوار، حمدان يسأل وهو يجيب.
كانت لدى المفكر الجغرافي أسئلته عن رؤية عبدالناصر للصراع في المنطقة، وأخذ أستاذ الصحافة يشرحها باستفاضة.
وهو يدخل إلى مكتب هيكل حمل الدكتور جمال حمدان معه نسخة من أثره الجليل «شخصية مصر» عليه إهداء يصفه بـ»أهم كاتب سياسي في العالم وأعظم مفكر سياسي أنجبته مصر».
«قلت له: يا جمال هذه مبالغة».


(٢)


على حائط في ممر داخل مكتبه عشرات الصور.
لكل صورة قصة وتاريخ.
فكر لبعض الوقت أن يستلهم الصور وخلفياتها التاريخية والإنسانية واختار عنواناً مؤقتاً: «صور على جدار».
غير أنه لم يتسن لهذا المشروع أن يكتب، فقد استأذن في الانصراف عندما وصل إلى الثمانين من عمره.
الفكرة العامة لـ»صور على جدار» أقرب إلى ما كتبه في «زيارة جديدة للتاريخ» حيث تطرق بتوسع لشخصيات نافذة في عصرها مثل الملك الإسباني السابق خوان كارلوس، والزعيم السوفياتي يوري أندروبوف، والفيلد مارشال مونتغمري، وألبرت أينشتين، وجواهر لال نهرو، ومحمد رضا بهلوي الذي أطيح به من فوق عرش الطاووس.
لم تتح له ظروفه أن يكتب عن شخصيات كثيرة أخرى، صورها على جدار مثل بطل حرب فلسطين الشهيد أحمد عبدالعزيز ــ الذي تعرف إليه في ميادين القتال، ونائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الأسبق محمود فوزي ــ وكان يراه الأفضل في تاريخ الدبلوماسية المصرية، والرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران ــ الذي ارتبط معه بصداقة قبل صعوده إلى الإليزيه، والزعيم اليوغسلافي جوزيب بروز تيتو ــ وقد حاوره كثيراً، والثائر اللاتيني أرنستو تشي غيفارا ــ الذي حاوره مطولاً في القاهرة، والزعيم السوفياتي نيكيتا خرتشوف ــ وقصتهما معاً مثيرة وقد أورد بعضها في متن بعض كتبه، ورئيس الوزراء الصيني التاريخي شواين لاي ــ وهو الشخصية الدولية الوحيدة التي أعلن كتابة أنه منحاز إليه ومعجب به، وزعيمة المليار هندي أنديرا غاندي ــ وكانت صلته بعائلة نهرو طويلة وممتدة، والمستشار الألماني إبان الحرب الباردة فيلي برانت ــ أحد أهم الذين تولوا هذا المنصب في التاريخ الألماني المعاصر، ورئيس الوزراء الباكستاني «ذو الفقار علي بوتو»، أبرز من تولى هذا المنصب في بلاده وجرى إعدامه بعد انقلاب عسكري، وأول رئيس للجزائر المستقلة أحمد بن بيللا ــ والرجلان ينتميان لفكرة واحدة جسدها «جمال عبدالناصر»، وأول رئيس لتونس بعد الاستقلال الحبيب بورقيبة ــ والصورة تكشف شيئاً من المودة تحاول أن تردم الجفوة بين نظامين عربيين، والأديبين الكبيرين توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وأم كلثوم وعبدالحليم حافظ وآخرين من عوالم مختلفة.
عندما خطرت له فكرة كتابة «بورتريهات» إنسانية وتاريخية مماثلة لـ»زيارة جديدة للتاريخ» استدعته العواصف السياسية إلى الحاضر وقلقه.

(٣)


خلف كل صورة قصة، وفي بعض القصص مناطق مجهولة لم يتطرق إليها.
قصته مع توفيق الحكيم مثيرة بذاتها، وأحياناً بدورسها.
في منتصف ستينيات القرن الماضي سأله الحكيم أن يبدي رأيه في مقال انتهى من كتابته للتو، ومقالاته تمزج ما بين الأدب ونقده والحياة وتأملاتها.
فاجأه السؤال لكنه أجاب على الفور: «يا أستاذ توفيق أنا أقرأ ما تكتب كأي قارئ آخر، أرسله إلى المطبعة أيا ما كتبت ولا تراجع أحداً».. وفي يقينه قاعدة استقرت: «عندما يكون لصاحب الرأي تجربة عريضة واسمه يزكيه فهو وحده من يتحمل مسؤوليته أمام الرأي العام ولا شأن لأي رئيس تحرير بما يكتب».
ألح عليه رائد المسرح العربي، وصاحب رواية «عودة الروح»، التي ألهمت جمال عبدالناصر وجيله في مطالع الشباب، أن يقرأ ما كتب وأن يسمع ملاحظاته عليه.
لم يكد يطالع النص ويشرع في القول: «هناك بعض ملاحظات» حتى استوقفه «الحكيم» طالباً إعادة المقال إليه ومزقه بلا تردد ملقياً أوراقه في سلة مهملات.
لم يكن الحكيم مستريحاً لما كتب واستبد به قلقه.. أراد أن يتأكد بنظرة أخرى يطمئن إليها أن أسبابه في محلها.
القلق من طبائع الإبداع، فما هو رتيب ومألوف ومتوقع لا يلهم إبداعاً يبقى، أو يفضي إلى رؤية تختلف.
في القلق سعي إلى شيء من الكمال لا يُدرك لكنه يُطلب.
كان هو نفسه ذات الرجل..
«تقول لي إن تاريخي يشفع أمام مشاهدي لكن التاريخ وحده لا يقنع أحداً بأنه يسمع ما يستحق الاستماع إليه، وإن لم يكن الكلام مقنعاً فسوف يكون من العبث أن تذكر الناس بالتاريخ».
«في كل مرة تكتب على ورق، أو تطل على شاشة، لا بد أن يكون لديك شيء جديد تقوله لا يكرر ما اجتهد فيه غيرك».
في مسرحية الحكيم «بنك القلق» شيء من شخصية ونوازع المثقفين والفنانين الكبار.
تلك النوازع تملكت سيدة الغناء العربي أم كلثوم، وجلال صوتها يهز الوجدان العربي من محيطه إلى خليجه، حتى تكاد أن تهوى من فرط قلقها قبل أن تقف على خشبة المسرح، كأنها تدخل اختباراً جديداً قد تخفق فيه، أو كأنها تعلمت للتو أبجديات الغناء، لكنها ما أن تبدأ في الشدو فهي ملكة على عرشها.
باستثناء إشارات عابرة لأم كلثوم فإنه لم يكتب، أو يرو عنها بقدر ما اقترب منها.
إذا جاز لي أن أحدد فناناً باسمه هو الأقرب إليه فإنها «أم كلثوم»، ولا أحد آخر قبلها.
كان رأيه أن فيها «شهامة أهل الريف»، بينما لم يحظ الموسيقار محمد عبدالوهاب بنفس المكانة ففيه «براجماتية الحارة الشعبية».

عندما كانت تزور سيدة الغناء العربي السيدة تحية عبدالناصر ويتصادف أن يراها الرئيس، كان يدعوها للغناء بمقاطع يحفظها، ويدندن خلفها، وكان من عادته أن يغني لعبدالوهاب كلما سنحت فرصة للاختلاء بنفسه.
قلت: «لكنك لم تشر أبداً إلى وصلات الغناء المشتركة بين عبدالناصر وأم كلثوم، رغم أنها بدلالاتها الإنسانية أكثر أهمية من بعض القصص السياسية؟».
قال: «لا تقل لي ذلك، فأنا متأكد بالخبرة والتجربة من أهمية تلك القصص في كشف ما غمض من جوانب خفية لرجال التاريخ».
«دعها لي فسوف أكشف عنها في الحوارات التلفزيونية المقبلة».
غير أن الشواغل السياسية الضاغطة أخذته بعيداً عن تلك الإشارة الإنسانية الموحية.
كان حديثه عن أم كلثوم دافئاً، فيما لم يكن متحمساً لعبدالوهاب، يعرف قدره الفني لكن طباعه الشخصية لا توافقه.
عندما شاع في منتصف السبعينيات أن قراراً جمهورياً يوشك أن يسند منصب نائب رئيس الوزراء لهيكل، اتصل به عبدالوهاب قائلاً: «نهنئ أنفسنا يا أستاذنا».
رد هيكل: «لكني اعتذرت».
.. ولم يتصل مرة أخرى.
سألته: «لماذا غاب عن الدور السادس في الأهرام عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين؟».
«إن الجو في مكتبة الدكتور طه حسين غريب مثير.. إن المكتبة أشبه ما تكون بصومعة.. صومعة عقل».
«غرفة لا تبين جدرانها لأن رفوف الكتب ارتفعت إلى السقف، غرفة فيها آثار أشبه ما تكون باللمسات السحرية. تمثال هنا للدكتور طه حسين.. وتمثال على الناحية الأخرى لملاك نشر أجنحته ولكنه بلا رأس.. رأسه مكسور!».

عندما كانت تزور سيدة الغناء العربي، السيدة تحية عبد الناصر، ويتصادف أن يراها الرئيس، كان يدعوها للغناء، ويدندن خلفها، وكان من عادته أن يغني لعبد الوهاب كلما سنحت فرصة للاختلاء بنفسه

«في وسط ذلك كله.. جلس على مقعد كبير الرجل الذي مزق حجب الظلام الكثيفة المحيطة به لكي يستقبل النور الخالد.. ويعكسه إلى الملايين بعد أن يضفي عليه شيئاً آخر.. شيئاً من ذات نفسه!».
هكذا كتب عنه في أول يومياته عام ١٩٥٥ بصحيفة «أخبار اليوم».
بعد سنوات سأله أن يأخذ موقعه على رأس كبار المفكرين والمثقفين والأدباء في «الأهرام».
قال الدكتور «طه»: «لماذا.. وأنت عندك الأخ توفيق؟»
عندما وصلت إلى مسامع توفيق الحكيم قصة ذلك اللقاء سأل هيكل: «لماذا لم تبلغني؟».
ـ «بأية صفة؟!».
أجابه «الحكيم»: «بصفتي رئيس الدور السادس».
كان عميد الأدب العربي يدرك حساسيات كبار المثقفين فهو كبير وهم كبار، فنأى بنفسه عن أية منازعات من هذا النوع.
بالنسبة لهيكل طه حسين أستاذ ملهم، والحكيم صديق مقرب.
وقد كان طه حسين أول من استخدم كلمة «ثورة» لوصف ما حدث في ٢٣ يوليو.
وتوفيق الحكيم أول من هاجمها في «عودة الوعي» بعد رحيل عبدالناصر.
غير أن قيمة الأدباء لا تحددها مواقفهم السياسية المتغيرة وإن كانت تضفي، أو تسحب، من أوزانهم العامة.