يأتي عقد مؤتمر جنيف للحوار بين الأطراف اليمنية نتيجة مسار ميداني وسياسي، أدت الولايات المتحدة دوراً أساسياً في الوصول اليه، بمشاركة دول أخرى. فبعد فشل العدوان السعودي في تحقيق أهدافه، كانت واشنطن تتنقل بين محطات عدة جعلتها في قلب الحدث اليمني.موقع اليمن مميز في الاستراتيجية الاميركية. بلد يطل على باب المندب، الممر المائي إلالزامي لنحو ثلث تجارة العالم. ويقول لنا التاريخ المعاصر، إنه لم يسبق أن عمدت أي من الدول المشاطئة لباب المندب، ولم تعمد أي قوة ذات تأثير إقليمي، إلى التهديد أو التلويح بإغلاقه. حتى في ذروة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، لم يحصل ذلك، بحسب قول علي ناصر محمد، الذي كان رئيساً لليمن الجنوبي المحسوب آنذاك على المنظومة الاشتراكية.

لواشنطن أيضاً، قاعدة عسكرية في جزيرة سقطرى، وهي تتحكم في الملاحة الدولية وتشرف على القرن الأفريقي والسواحل الهندية والممر الأساسي إلى دول الخليج. وأهم من كل ما سبق، أن واشنطن تريد، وبقوة، أن يبقى اليمن تحت الوصاية السعودية.
لكن ثمة ما استجد أواخر تسعينيات القرن الماضي بالظهور البارز لتنظيم «القاعدة» في اليمن. وأعلنت الولايات المتحدة أن التنظيم بات يمثّل تهديداً لمصالحها في المنطقة، ويهدد الأمن القومي الأميركي. وما لبثت واشنطن أن أضافت إلى أجندتها الإدارة المباشرة للملف اليمني. وعندها بدأ السفير الأميركي في اليمن يتدخل بكافة تفاصيل الحياة السياسية والقبلية وحتى الاجتماعية لهذا البلد. حتى إن اليمنيين يتبادلون طرفة أن السفراء الأميركيين المعتمدين في صنعاء تعلموا «تخزين القات»، بعدما صاروا يستضيفون حلفاءهم من اليمنيين في جلسات طويلة في دارة السفارة.
في عام 2011، انطلق الحراك الشبعي مطالباً بإصلاح نظام الحكم في البلاد. يومها وقفت واشنطن على رأس الدول العشر التي أنتجت المبادرة الخليجية، والتي فرضت استقالة الرئيس علي عبدالله صالح مقابل ضمانات من مجلس الأمن ومجلس التعاون الخليجي، وجرى تعيين نائبه عبد ربه منصور هادي رئيساً لليمن.
مع الوقت، انطلقت حركة «انصار الله» في مشروعها السياسي الداخلي، ونجحت خلال وقت قياسي بالتمدد، انطلاقاً من الشمال باتجاه صنعاء. لم تنجح مساعي واشنطن في منع تمدد الحركة، وخصوصاً بعدما أدركت أن ست حروب ضدها لم تنفع في إضعافها. غير أن للحوار الذي تولاه ممثل الأمين العام للامم المتحدة جمال بن عمر مع جميع القوى اليمنية، بما فيهم «أنصار الله» أدى دوراً في تظهير أول موقف إيجابي للجانب الأميركي، قائم على الإقرار بحضور هذا الطرف، علماً أنها واصلت الضغط لتحقيق مطالب حلفائها.
ومع اعلان السفير السعودي في واشنطن حينها، عادل الجبير، العدوان، ظهرت التأكيدات التي تحسم أن العدوان سيكون تحت إشراف ورعاية وإدارة واشنطن. على الرغم من أن الناطقين باسم وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين حرصوا على حصر مشاركتهم في المعونة اللوجستية والاستخبارية. علماً أنه لم يتأخر الوقت حتى أعلن أن بنك الاهداف السعودي كان أميركياً، ولما نفذ خلال الأسبوع الاول، سارعت واشنطن إلى تقديم معلومات جديدة، كما حرصت على وضع «ضوابط» لإبقاء النزاع في الإطار اليمني، وعدم السماح بما سمته «العوارض الجانبية» التي قد تأخذ المنطقة إلى حرب شاملة.
وفرض العدوان السعودي حصاراً برياً وبحرياً وجوياً، حتى وصلت الأوضاع إلى حافة الكارثة الإنسانية بحسب توصيف الأمم المتحدة والمنظمات الدولية. غير أن الشعب اليمني وقياداته الثورية التي تدير الدفاع عن البلد يمتلكون من أوراق القوة ما يمكّنهم من رفع الحصار. وهم قادرون على استخدامها لجعل العالم كله أمام مسؤولياته. وقد ترافق ذلك مع الاحتكاك الأميركي ـ الإيراني في البحر الاحمر، ليفتح الباب أمام اتصالات عاجلة بين الطرفين، تولاها وزيرا خارجية البلدين محمد جواد ظريف وجون كيري (خمسة اتصالات في ليلة واحدة)، وجرى خلالها اطلاع الأميركيين على الخطوط الحمر، التي إذا ما تجاوزها العدوان، فسيمارس اليمنيون حقهم باستخدام الأوراق، مع التشديد على أن التداعيات تبقى من مسؤولية المعتدي الذي يفرض الحصار.
أدركت الولايات المتحدة جدية الموقف، ومن يومها أدار الأميركيون اتصالات ومفاوضات هدفها الأول إلغاء الحصار الإنساني للشعب اليمني. ثم جاء الانتقال مما سمي «عاصفة الحزم» إلى ما سمي «إعادة الأمل» وبعدها الهدنة الإنسانية، التي اقتصرت عملياً على مرور المساعدات الإنسانية وإبقاء العمل في المرافق البحرية لنقل البضائع. وتواصل العمل بهذه السياسة، والأهم هنا، أن دول العالم أدركت خطورة إيصال الشعب اليمني إلى مرحلة يشعر فيها بأنه لم يعد لديه ما يخسره.
وبعد مضي شهرين من العدوان، تحركت الأمم المتحدة من خلال مبعوثها الجديد اسماعيل ولد الشيخ أحمد. وحدد موعد لحوار يمني ـ يمني يعقد في جنيف، نهاية أيار الماضي. رفضت السعودية الذهاب إلى جنيف، وترجم الأمر الرئيس الفار عبد ربه منصور هادي رسالة إلى الأمين العام للامم المتحدة يعلن عدم جاهزيته للحوار، لكن الدبلوماسية الأميركية تحركت، ووصلت إلى المنطقة نائبة وزير الخارجية آن بترسون. استمعت إلى المطالب السعودية، ثم توجهت إلى سلطنة عمان، حيث كان وفد «أنصار الله» في زيارة إلى مسقط بدعوة من قيادتها. تولى العمانيون وساطة غير مباشرة بين الطرفين. وكالعادة رفع الأميركيون سقف مطالبهم، إلى أن وضعت على الطاولة مبادرة أعدها الروس والإيرانيون وسلطنة عمان تضمنت عشرة بنود جمعت بين مطالب الطرفين. واتفق على أن تكون البنود العشرة حزمة واحدة، لتتحول إلى جدول أعمال الحوار اليمني ـ اليمني. ثم اتفق على أن تعلن الامم التحدة موعدا آخر لجنيف، وبالفعل اجتمع مجلس الأمن وأصدر بيانا رئاسيا دعا فيه الأطراف لحضور الحوار من دون شروط وبنيّات حسنة وحدد الموعد خلال الساعات المقبلة.
في هذه المرحلة، سنجد واشنطن تدير استراتيجية جديدة، تختلف جذرياً عما فعلته في أفغانستان والعراق. وتتصرف واشنطن بواقعية المضطر إزاء التعامل مع الوقائع الجديدة. لم يعد هناك مجال لسياسة الغائية، ولم يعد ممكناً تحقيق المطالب المرتفعة السقف. وجاء التواصل الأميركي المباشر مع القوى اليمنية ليجلعها مدركة بقوة أن «أنصار الله» مكون رئيسي في البلد لا يمكن تجاهله، وأن المعارك لاستئصاله فشلت تماماً، وأن أقصى ما يمكن تحصيله، هو إلزام هذه الحركة الشعبية والعسكرية القوية، بالعودة إلى المسار السياسي، من خلال قبول المفاوضات مع بقية الأطراف الداخلية. ويبقى هاجس الأميركيين، ليس فقط الضغط لتحسين شروط حلفائهم، بل أيضاً في كيفية تأمين «المخرج المشرف» للشريك السعودي، بحيث لا يظهر مهزوماً، وإقناعه بحل يمكن إقناع الشعب اليمني به.