قرّر حزب الله سحب عناصره وكوادره وإنهاء انتشاره وتموضعه العسكري، في الساحة السورية. قرّرت إيران، في تساوق مع ذلك، سحب مستشاريها العسكريين، كما قررت فصائل المقاومة العراقية، سحب مقاتليها وإنهاء وجودها العسكري في سوريا.واكب قرار الانسحاب الميداني، بيان صادر عن محور المقاومة، يدعو الجانب الروسي إلى اتخاذ الموقف الميداني المناسب، لرعاية مصالحه في سوريا وحماية الدولة السورية، إلى جانب الجيش السوري.

وقبل أن نستكمل الموضوع، من المفيد الإشارة إلى أنه سيناريو، مفترض، وفق آمال وأحلام جهات تراهن على إمكان الفصل بين روسيا وإيران، في الساحة السورية، وما يليها أيضاً، باتجاه الإقليم.
واستكمالاً لما ورد، وبعد صدور القرارات بالانسحاب وبدء تنفيذها، بدأت في المقابل وبنتيجتها، التداعيات.
من ناحية روسيا، تدرك، بداهة، أنّ الميزان الميداني وحده، هو المكون الرئيسي في القدرة على تحقيق المصالح. لا مصلحة سياسية وغيرها، دون إسناد مسبق ميداني. تدرك جيداً أنّ المصالح لا تتحقق بالتودّد والأخلاق السياسية والوعود، ما لم تكن مستندة إلى القوة والميزان العسكري وقدرة فرض المصالح، وإلا لا طائل حتى لاتفاق مسبق، إن لم يكن معتمداً، فقط، على إمكانية فرضه ومنع الآخرين من التنصل منه ومن تنفيذه. وهو تنصل، حاضر بقوة لدى الخصوم، وبالأساس ما كان يمكن التوصل إليه، إن لم يكن مبنياً على أسس ميدانية من منطلق الاقتدار وفرض الوقائع على الأرض.

العلاقة بين موسكو وطهران عضوية وهامش المناورة حولها مقلص

الجانب الروسي بات أمام استحقاق ميداني، نتيجة الانسحابات، ينبئ بإمكان خسارة إنجازات ما تحقق بالقوة العسكرية والترجمة السياسية اللاحقة المبنية عليه. الجانب الروسي أمام خطر إلحاق هزيمة نكراء به، من شأنها أن تتمدد تداعياتها السلبية لتتجاوز سوريا والإقليم، باتجاه الدائرة الأوسع... دولياً.
الخيارات الروسية في مواجهة هذا السيناريو، قد لا تحيد عن ثلاثة:
الاستسلام أمام الواقع المستجد، وتلقي نتائجه، والاتجاه في نهاية المطاف نحو الانسحاب عسكرياً من سوريا.
الإبقاء على الوجود العسكري كما هو، دون تغيير، وتحصين القواعد الجوية والبحرية ضمن سيطرة إقليمية محدودة على الساحل، بمعنى تحول الوجود الروسي إلى فصيل مسلح، على جزء محدود من الأرض السورية، بلا قدرة تأثير سياسية وميدانية، يشبه تموضع أي فصيل آخر من الفصائل المسلحة، مع الفارق في الإمكانيات.
الاتجاه إلى قرار جريء، ومغامر، يتجاوز الخط الأحمر الروسي، بتعويض ميداني لانسحاب الحلفاء، عبر نشر قوات برية فاعلة على الأرض السورية.
الخياران الأول والثاني، ينهيان عملياً الوجود الروسي و/أو تأثيراته السياسية، وينتفي بنتيجتهما إمكان تحقيق المصالح الروسية، كما هي مرسومة ابتداء. مع فقدان، بطبيعة الحال، تلك المكتسبة منها حتى الآن. هما خيارا الاستسلام الفعلي بعد تلمس الانتصارات. ويأتيان بعد التخلي عن رافعة التأثير والسيطرة (إيران وحلفائها)، والقدرة الفعلية التي مكنتها من فرض إرادتها السياسية.
هنا، تكون موسكو أمام مسمى دائرة غير مغلقة: التخلي عن الرافعة (إيران وحلفائها) التي مكنتها من الانتصار، كي تعطى بموجب التخلي، نفس النتيجة التي حققتها مع وجود الرافعة لديها: الانتصار. في واقع كهذا، ستكون موسكو أمام معادلة منقوصة في الميزان البيني وخصومها، مع الأمل بكرم وسماحة وأخلاق سياسية لدى الخصوم، لتنفيذ ما وعدوا به، بعد انتفاء رافعة التأثير الميدانية لروسيا. وهذا كله مع الإدراك المسبق، أن لا أخلاق وسماحة وكرم، في العلاقات بين الخصوم والأعداء، خاصة مع اختلاف وتباين بل وتضاد، بين المصالح.
مع ذلك كله، أيضاً، لن ينتظر المسلحون والجهات التي تقف خلفهم، أن تتخذ موسكو أياً من خياراتها. ستعود هذه الجهات إلى اتخاذ الموقف العدائي ودفع المسلحين للتحرك الهجومي الميداني، وفرض حقائق جديدة على الأرض، تنهي مفاعيل ما تحقق للروس، من حين تدخلهم العسكري إلى جانب حلفائهم، في سوريا. واقع جديد، سيدفع روسيا إلى التقرير إن كانت ستتخلى عن سوريا وإلحاق الهزيمة بها، أو التدخل البري المباشر لتعويض النقص ومنع الانكسار الميداني، مع منسوب مرتفع، جداً، من المخاطرة... مخاطرة كانت قد قررت موسكو ابتداءً منع نفسها من الوقوع فيها، وعدم التسبب للجيش وللقيادة الروسيتين، تكرار سيناريوهات التدخل السوفياتي في أفغانستان.
اعتماد موسكو أياً من الخيارات الثلاثة، وقبلها انسحاب الحلفاء من سوريا، سيدفع الآخرين، بحسب تسمياتهم، كأعداء أو خصوم، إلى التموضع السياسي والميداني السابق، وسيعاد إحياء فرضيات وأدبيات وتوجهات وخطط سياسية وميدانية، كانت سائدة قبل التدخل الروسي في سوريا، وأيضاً لحظة بدء التدخل، ومن ضمن ذلك:
مسارعة المسلحين للتكاتف وإنهاء التباين فيما بينهم، ومن ثم العمل على استرداد ما خسروه في مرحلة ما بعد التدخل الروسي.
انتقل الجيش السوري نتيجة انسحاب الحلفاء، من الموقف الهجومي إلى الموقف الدفاعي. أي المبادرة إلى إعادة انتشار وحداته ميدانياً، و«الانسحاب التكتيكي» بهدف تأخير وعرقلة قدر الإمكان، الاندفاعة العسكرية للمسلحين، على خلفية الواقع الميداني الجديد.
هجمات ميدانية مباشرة ضد الوجود العسكري الروسي، حتى في مرحلة ما قبل بلورة قرار التدخل البري، إن تقرّر لاحقاً، بالفعل. وفي حينه، ستكون الهجمات أكثر دموية وديمومة وشراسة.
تباعد تركي عن روسيا، بعد أن تغيرت الحقائق الميدانية، وتمكن أنقرة من التخلي عن «الصداقة» التي فرضت عليها فرضاً... ولا يبعد، أن تعمد تركيا، إلى إعادة النظر بكثير من الاتفاقيات الثنائية بينها وروسيا.
عودة الحياة إلى الجسد الخليجي الذي أعلن موته، وعودة الحياة إلى تموضعهم القديم، في مواجهة الدولة السورية. وعودة الدعوة إلى مؤتمر دولي، للحل في سوريا، بناء على المعطيات الميدانية الجديدة.
إعادة الجيش الروسي إلى موقع الجهة المحتلة لسوريا، وما يتبع ذلك من تداعيات.
إعادة إحياء جنيف واحد، وإعادة إحياء الأطماع الإقليمية (الخليج وتركيا والغرب)، بالسيطرة على سوريا كسلة واحدة، غير منقوصة.
توالي التصريحات والمواقف الموجهة إلى موسكو، في مد يد «العون» للخلاص من المستنقع السوري... تصريحات عن خصوم وأعداء للمصالح الروسية نفسها، إن في سوريا، أو في الإقليم، أو الساحة الدولية.
لم يجر هنا الحديث عن أوجه عديدة للتداعيات. يتعذر حصرها في مقالة، ومن بينها التداعيات السلبية على الداخل الروسي. وعلى القيادة الروسية وجمهورها. وعلى الانكسار والهزيمة النكراء لشخص الرئيس الروسي. وأيضاً على الغباء، في حال حصل الفصل، لاستراتيجية روسيا وسياستها الخارجية، في وضع سلة مصالحها والابتعاد عن قوتها، أمام وفي مرمى وتحكم، أعدائها وخصومها الدوليين.
نعم. من شأن أي عاقل، أو غير عاقل، أن يتخيل انفصال الروسي عن الإيراني والعكس، وتحديداً للجهات التي لم يعد لديها ما تقوم به، إلا تلقي النتائج. لكن لا عاقل، بناء على ما ورد، يتخيل التشابك والتصارع بين الجانبين، الروسي والإيراني، مع إدراكهما المسبق تبعات سيناريو الانفصال هذا، وتحديداً، وبشكل أساسي، بعد الدخول في مرحلة الانتصارات، بمشاركتهما معاً.
مع ذلك، لا يجب أن يغيب عن بالنا أن روسيا دولة لها مصالحها، وقد تقدم، بطبيعة الحال، على الاستفادة إلى حد أقصى من سوء العلاقة والعداء القائمين بين إيران وأميركا. تماماً كما هو واقع إيران نفسه، التي ستبحث، أيضاً، عن الاستفادة من النزاع الروسي ــ الأميركي. إلا أن كل ذلك، يأتي ويتمحور ضمن هامش ضيق محكم بالمصالح الاستراتيجية للجانبين، حيث العلاقة بينهما عضوية، وهامش المناورة حولها مقلص ويصعب التملص منه.