لا تزال استراتيجية الإدارة الأميركية الجديدة تجاه الشرق الأوسط عموماً، والعراق خصوصاً، غير مكتملة المعالم إلى الآن، إلا أن مؤشرات أولية يمكن التأسيس عليها لترجيح كفة خيار صدامي، تتطلع الولايات المتحدة من خلاله إلى تثبيت قدميها في بلاد الرافدين، في مقابل ما تراه «خطراً إيرانياً متزايداً» يتهدد نفوذها هناك.
قبل أيام، غرد الرئيس الجديد، دونالد ترامب، مهاجماً السياسة الإيرانية من بوابة العراق، لا من غيرها، معتبراً أن «إيران تستحوذ بسرعة على المزيد والمزيد من العراق، حتى بعد أن أهدرت الولايات المتحدة هناك 3 تريليونات دولار». تصريح تتردد أصداؤه في الجدل المتصاعد داخل الدوائر المقربة من واشنطن، والذي يمكن من خلاله التقاط إحداثيات المرحلة المقبلة.
دينيس روس، أحد مؤسسي «متحدون ضد إيران نووية»، والمساعد الخاص للرئيس باراك أوباما بين عامَي 2009 و2011، يقول في دراسة لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى بعنوان «على دونالد ترامب أن يعزل إيران فوراً»، إنه «سيكون لزاماً على الإدارة الجديدة الحفاظ على إجماع الحزبين في الكونغرس بأن الوضع الراهن في دمشق وبغداد ــ والدور الذي تلعبه إيران هناك ــ غير مقبول»، ناصحاً إدارة ترامب بعدم تمزيق «خطة العمل المشتركة الشاملة» (الاتفاق النووي)، بل بأن «ترفع تكاليف استمرار التعنت الإيراني، وتحقيقاً لهذه الغاية، على إدارة ترامب اعتماد استراتيجية أكثر توسعاً حيال طهران: وبالتحديد من خلال معالجة تلك القضايا الحيوية خارج نطاق الاتفاق، وبشكل خاص تدخل إيران المزمن في المنطقة».
من غير المتوقع أن تعمد الولايات المتحدة إلى تدخل عسكري واسع ومباشر في العراق لتحقيق أحد تجلّيات الغاية التي يتحدث عنها روس، إنما الاحتمال الأقوى أن تلجأ واشنطن إلى تصعيد الضغوط على طهران وحلفائها، عسكرياً وأمنياً وسياسياً. في الميدان، بدأت تلك الضغوط تتمظهر بقوة على الحدود السورية العراقية، حيث تلوح معالم المعركة «الأصعب» بعد الموصل، التي باتت استعادتها شبه محسومة. منذ إعلان اكتمال استعادة شرق الموصل (أي الساحل الأيسر من المدينة)، وانتقال العمليات إلى جانبها الغربي (الساحل الأيمن) المحاذي لسوريا، شرع اللاعب الأميركي في سلسلة خطوات عملياتية تستهدف، فعلياً، عرقلة مساعي «الحشد الشعبي» للسيطرة على الحدود انطلاقاً من محافظة نينوى.
بعدما علّقت الولايات المتحدة استكمال العمليات في المناطق الواقعة شمال غرب الرمادي لحسابات متصلة بالأوضاع في سوريا، استفاقت فجأة على أقضية: عانة وراوة والقائم في محافظة الأنبار، والتي لا تزال تحت سيطرة تنظيم «داعش». هكذا، كثفت طائرات «التحالف الدولي» بقيادة واشنطن، في الأيام الأخيرة، غاراتها على مواقع التنظيم في تلك المناطق، في أعقاب فترة هدوء انخفضت فيها الغارات هناك إلى حدودها الدنيا. وترافق ذلك مع تحركات لمقاتلين عشائريين قُدّرت أعدادهم بأكثر من ألفي مقاتل باتجاه قضاء عانة. تحركات لم تنل نصيبها من التغطية الإعلامية، كما لم يرد الحديث عنها في بيانات الحكومة العراقية وتصريحاتها حول العمليات الدائرة في الميدان، إلا أن مقاتلين من العشائر أكدوا، في تصريحات صحافية، أن قوات من الفرقة السابعة التابعة للجيش شاركتهم الهجوم المفاجئ على عانة، وأن العملية جرى الإعداد لها من قبل ضباط كبار في الجيش الأميركي، في قاعدة عين الأسد الجوية، غربي الأنبار.
يتضح من المعطيات المتقدمة أن الولايات المتحدة تستبق مساعي «الحشد الشعبي» للتقدم نحو الحدود السورية العراقية بعد استعادة قضاء تلعفر، من خلال الدفع بالقوات الموالية لها نحو الشطر «الأنباري» من الحدود، تمهيداً للتمدد نحو المناطق الحدودية في نينوى. استراتيجية تحدوها خشية واشنطن المتقادمة من احتمال تمكن طهران من تشكيل منطقة اتصال حيوية بين سوريا والعراق، يشكل اختراق دير الزور من الجهتين الشرقية والجنوبية الشرقية أولى خطواتها الرئيسية. هذا ما لمّح إليه مسؤول فرنسي، قبل أيام، حين نقل عن الأميركيين عدم ممانعتهم «التفاهم مع الروس والنظام حول دير الزور، بعد تحرير الرقة من داعش»، ولكن ما يهمّهم الآن «تقليص التأثير الإيراني في سوريا»، بعدما «باتت إيران وحزب الله القوة الأساسية لـ(الرئيس السوري، بشار) الأسد على الأرض».
في سبيل تحقيق الهدف المشار إليه، ستعمد الولايات المتحدة، أيضاً، إلى الدفع بمزيد من الجنود والضباط نحو بلاد الرافدين، تحت عناوين التدريب وتقديم المشورة والإرشاد للقوات العراقية. منذ ثلاثة أيام فقط، أعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أنها زادت عدد قواتها في العراق إلى 3870 جندياً، بعدما كان آخر رقم معلن هو 3500 جندي، ما يعني أنها بعثت حديثاً بـ 370 جندياً إضافياً (علماً بأن المعلومات الأمنية تشير إلى أنّ الرقم غير المعلن أصبح يُقارب الـ 20 ألفاً). خطوة يُتوقع أن يتبعها الكثير من الخطوات المماثلة في الأشهر المقبلة، بهدف تعزيز القواعد الأميركية الممتدة من اليعربية إلى عين الأسد والحبانية إلى مجمع معسكرات النصر وغيرها من القواعد التي باتت، إلى جانب السفارة الأميركية تشكل وجهاً من وجوه الاحتلال غير المباشر للعراق.
في المقابل، لا يبدو أن طهران وحلفاءها في طور التراجع عما يعتبرونه مقتضيات وحدة المعركة بين سوريا والعراق. من هنا، يؤكد «الحشد الشعبي» نيته التوجه إلى الحدود السورية العراقية بعد استعادة تلعفر والأقضية المجاورة لها. آخر التصريحات المشددة على ذلك جاءت على لسان قائد منظمة «بدر»، هادي العامري، الذي، وإن بدا مسايراً للتوجه الرسمي في بغداد، إلا أنه جزم بأن «قوات الحشد ستتقدم باتجاه الحدود السورية بعد اكتمال تطهير المنطقة المحصورة بين الجانب الأيمن (للموصل) وتلعفر». قبله بأيام، كان المتحدث باسم «الحشد»، أحمد الأسدي، قد أعلن أن «تشكيلات الحشد كباقي تشكيلات القوات الأمنية العراقية سيكون لها دور في ضبط الحدود العراقية مع سوريا وسد الثغَر لمنع تدفق الإرهابيين والحفاظ على أمن البلد». ولم يستبعد الأسدي نفسه، في تصريح في تشرين الأول الماضي، أن «يضطر الحشد إلى ملاحقة تنظيم داعش داخل الأراضي السورية لضمان تأمين الحدود العراقية بعد إكمال تحرير محافظة نينوى».
وبالعودة إلى الاستراتيجية الأميركية المرتقبة، ولكن على المستوى السياسي، لا تظهر الولايات المتحدة بعيدة عن الديناميات المعتملة راهناً على الساحة العراقية في ما يتصل بالاستحقاق الانتخابي. تحاول واشنطن، من خلف الكواليس، الدفع باتجاه إقرار قانون انتخابي يسهم في «تعويم» التيارات المدنية التي ترفع شعار «محاربة الميليشيات» (المقصود بها الحشد الشعبي)، والتي سيؤدي تكتلها إلى إضعاف الجبهة الرافضة للنفوذ الأميركي في العراق. ويصاحب تلك المحاولات حديث، على الصعيد الاقتصادي، عن نية الإدارة الأميركية الجديدة إعادة الاستيلاء على الأصول الوطنية الأكثر قيمة للعراقيين (في مقدمها النفط) وتسليمها إلى شركات أميركية (على سبيل المثال استبدال أميركيين بالعمال الوطنيين في مصافي النفط، وإرسال قوة من المارينز لدرء أي تمرد محتمل).
باختصار، تريد واشنطن تجريد بغداد من كل عناصر القوة التي تمكنت من بنائها خلال السنوات الأخيرة. إرادة لا يبدو أن تحقيقها بالسهولة التي يتصورها دونالد ترامب. في الشق الاقتصادي، ثمة أهداف لم تستطع أميركا بلوغها وهي في ذروة قوتها عام الغزو (2003). وفي الجانب السياسي، لا يُستبعد أن تفرز الانتخابات المقبلة مفاجآت سياسية قد تبدل جذرياً المعادلة الراسية اليوم. أما عسكرياً، فتبقى الكلمة الأخيرة للميدان الذي تضيق دائرته شيئاً فشيئاً، مسعّرة التنافس على الإمساك بقصب السبق.




واشنطن تحذّر... والبنك الدولي يربط الدعم بالمصالحة

حذرت السفارة الأميركية في بغداد، أمس، من «هجمات محتملة على فنادق يرتادها غربيون» في العاصمة العراقية، مؤكدة أنها تلقت «تهديدات ذات صدقية» بهذا الشأن. ودعت، في رسالة أمنية طارئة على الإنترنت، «المواطنين الأميركيين إلى التزام أقصى درجات الوعي الأمني، واتخاذ الإجراءات الملائمة لتعزيز أمنهم الشخصي عندما يقيمون ويعملون بالعراق». ونصحت الرسالة «المواطنين بتجنب السفر إلى العراق»، منبهة إياهم إلى «احتمال تعرضهم للخطف على أيدي جماعات سياسية مسلحة أو عصابات أو سقوطهم ضحايا لتفجيرات ينفذها تنظيم الدولة الإسلامية».
من جهة أخرى، أعلن البنك الدولي، أمس، أنه ينوي تقديم الدعم المالي للعراق، رابطاً ذلك باستكمال مشاريع لرعاية المصالحة في هذا البلد. ورأى مدير البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط، فريد بلحاج، أن «معركة الموصل تبقي كل القوى معاً»، مؤكداً «(أننا) سنبذل قُصارانا للتحقق من أن حوافز المصالحة ستكون أكثر إغراءً من الحوافز الدافعة إلى كل من تلك الفصائل للعمل منفردة».