داخل مكتب طيران الشركة اليمنية في بيروت، تتنوع مسارات شراء تذكرة إلى اليمن بين ثلاث محطات: عمّان والخرطوم والقاهرة، فيما يكون سعر الأخيرة هو الأرخص. لم يخبرني الموظف في تلك اللحظة، بأن الرخص لا يشمل التذكرة فحسب، بل تعامل غالبية البشر في تلك البقعة التي كُتب على مدخلها: «ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين»، مع أنّه كان الأولى أن يكتب: «ادخلوا غير آمنين، ولا تنسوا أن تتفقدوا حقائبكم ومقتنياتكم...!».
طريق العودة إلى اليمن تعج بالأحداث الكثيرة، ولكن الوجع واحد. يكفي أنه عند دخولنا أول صالة وصول في مطار القاهرة الدولي يتم تنبيهنا إلى أن «ركاب الترانزيت» عليهم الانتظار في ركنها، إلى حين وصول حافلة تنقلهم إلى الصالة الأخرى. انتظرت وكان بجواري زميل يمني، وعجوز سورية، وفجأة انضم إلينا شاب ثلاثيني، رغم أنه يحمل تأشيرة تخوّله دخول مصر، ولكن جوازه السوري يحتم عليه أن يمر بإجراءات معقدة وتدقيق مختلف. فجأة سألنا أحد الموظفين في المطار: «أنتم ترانزيت؟». وبعدما سأل ثلاثة آخرين السؤال نفسه، تابع: «طيب عندكم شنط؟». قلت له: «نعم، وقد تم شحنها من مطار الحريري إلى عدن مباشرة، يعني لا يلزم أن نستلمها هنا حسب إفادة موظف المطار في بيروت».
قال لي: «يا باشا جيب رقم الشنط اشوفهم لك»، فأعطيته، عاد سريعاً وقال: «يا باشا الشنط خلاص راحت ع الطيران اليمني... آه... أي حاجه حلوة يا باشا؟». للحظة لم أستوعب المغزى من الجملة التي قالها لأني للمرة الأولى أسافر عبر مطار القاهرة. نظرت إليه بغرابة، وإذا بزميلي اليمني ينظر إليّ بابتسامة متعجباً من جهلي قصده. شكره زميلي، ثم انتظر الموظف قليلاً، وعندما لم نلق له أي اهتمام، انصرف.
نظرت إلى زميلي بغرابة وسألته ماذا كان يقصد الموظف، فأجابني بأن «هذه جملة ستسمعها اليوم كثيراً، هدي بالك، معناها (بقشيش)؛ يعني يريد فلوس!». واصلنا الانتظار في الصالة قبل أن ينقلونا إلى صالة «الترانزيت». جاء سائق الباص وسألنا: «إلى وين مسافرين؟»، فأجابته العجوز السورية: «إلى جنوب أفريقيا». أخذها معه، وعندما قلنا له: «إلى عدن مع طيران اليمنية»، رد بسرعة: «لسه يا باشا... انتم صالتكم خاصة!».
لم أستغرب إجابته لأني تعرضت إلى موقف مشابه في طار الأردن، حيث تم تخصيص تفتيش خاص لليمنيين داحل صالة منفردة، ثم نقلنا إلى الصالة العامة. قلت في نفسي: «إجراء عادي!».
بعد أربعين دقيقة تقريباً، رجع السائق وسألنا: «أرقام الشنط كم يا باشا؟»، أشرت إليه إلى أن زميله قد سألنا وتم التأكد من نقلهن للطيران اليمني، فردّ: «وريني الرقم يا باشا». عرضت عليه أرقام الحقائب، ثم قال: «كدا مزبوط يا باشا يله تعالوا معي»، وأخذنا إلى الصالة المخصصة لليمنيين. في الطريق قال لنا الجملة نفسها التي سمعتها من الموظف السابق: «أي حاجة حلوة يا باشا»، لكن زميلي جهز نفسه ليتهرب دون إعطائه فلس واحد، فظلّ ينظر إلينا نظرات الناقم.
في الصالة إذا بموظف آخر ينادي لنا بصوت مرتفع فج: «إيه إيه رايحين ع فين»، قلت له: «على اليمن». فقال لسائق الباص بصوت حاد: «ليه جبتهم بسرعة لسه رحلتهم مطوّلة، خليهم يقعدوا للصبح!». نظرت إليه بغرابة كأننا في غابة وليس في مطار. قال لي: «جيب جوازك والتيكت واقعد انتظر».
طبعاً، الصالة المخصصة لليمنيين كأنها صممت بطريقة خاصة للعقاب أو للتحقيق: الإضاءة بيضاء باهتة سحبت ما تبقى من نظري الضعيف، لا خدمات ولا شبكة إنترنت ولا شيء يليق بالإنسان، وغالبية الموظفين يتعاملون مع اليمني بصراخ وبطريقة فجة جداً، كأن هنالك تعميما بالتعامل الوقح معنا. قلت في نفسي: «الصبر يا محمد، الترانزيت سبع ساعات وتنفرج».
وفق التذكرة التي اشتريتها من بيروت موعد الوصول إلى مطار القاهرة هو الساعة 7:15 مساء والإقلاع منها إلى عدن الثالثة صباحاً. فجأة، تكاثر عدد اليمنيين في الصالة وزاد الانتظار والوقت يطوي أنفاسه الساعة بعد الأخرى. لم أستطع الإنتظار أكثر، فسألت الموظف في الصالة الخاصة: «لو سمحت الساعة الآن واحدة، وباقي على موعد الإقلاع أقل من ساعتين، صح؟»، رد علي بطريقة فجة: «اقعد اقعد، لسه بدري». نظرت إليه باستغراب، وقلت: «هل تم تأجيل موعد الرحلة» قال: «إيه، اقعد أقعد».
رجعت وأنا منكسر مهموم لحدوث ما لم يكن في الحسبان: تغيير موعد الرحلة، وهذه المعاملة التي يعامل بها اليمني. اليأس والتذمر يسودان المكان، ومعظم الموجودين كلٌ يرمق صاحبه ولسان حاله يقول: أي لعنة أصابتنا؟ ولماذا كل هذا العناء الذي لا نستحقه؟
أخذت سماعة الهاتف لأستمع إلى بعض الموسيقى لعلها تهدي روعي وتخفف توتري، وإذا بالذي في جواري يقول: «تم تغيير موعد الرحلة». أخبرته أن ذلك متوقع، لأن طيران اليمنية مشهور بعدم انضباط مواعيد رحلاته في الأوقات العادية، فكيف بوضع استثنائي وفي وقت تمر فيه اليمن بإجراءات مشددة. كنت أتوقع أن يؤجل الموعد ساعة أو اثنتين، لكنني فوجئت بأن الأمر قد يطول حتى ساعات الظهر.
شعرت بصدمة، وتمنيت أنه لو تتعامل معنا إدارة المطار وطيران اليمنية كبشر، وعلى الأقل إخبارنا بتأجيل موعد الرحلة. لم أطمح إلى الاعتذار منا ونقلنا إلى فندق، وتقديم واجب الضيافة، وفق المتعارف عليه عالمياً. لم أتمنَ أو أتوقع كل هذا، تمنيت أن نخبر بالموعد الجديد فقط. للحديث بقية، الآن أشعر بإرهاق شديد، ونظري يوشك على التلف من الكتابة بالهاتف تحت إضاءة هذه الصالة... فلا يزال ينتظرني في الطريق من عدن إلى صنعاء، العاصمة المقفلة المطار، رحلة عذاب أخرى.