شهدت ولاية بجاية الواقعة في منطقة القبائل شمال شرق الجزائر، على بعد 228 كيلومتراً شرق الجزائر العاصمة، سلسلة من أعمال الشغب بين الثاني والخامس من كانون الثاني/يناير الجاري، ضمن إطار الإضراب العام الذي نفّذه التجار والمهنيون، والذي التزمته غالبية السكان، بالرغم من عدم تبنّي التنظيمات النقابية له. وقد امتدّت هذه التظاهرات إلى مناطق أخرى، مثل مدينتي تيارت وأقبو، حيث حاول المحتجّون اقتحام مقارّ الإدارات الرسمية والشركة الوطنية للكهرباء والغاز (سونلغاز).
غير أنّ الغموض والضبابية حول الدعوة إلى الإضراب، الذي أطلقته جهات مجهولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أثارا تساؤلات لدى الصحافة والرأي العام، حتى إن البعض أشار إلى تدخل أجنبي في المسألة. ويندرج المؤتمر الصحافي الذي عقده رئيس الوزراء الجزائري عبد المالك سلال في الخامس من الشهر الجاري ضمن هذا السياق، وخصوصاً مع قوله إن «هناك أطرافاً تحاول زعزعة استقرار البلاد».
بيد أنّ اللجوء إلى الخطاب التآمري للحدّ من آثار إضراب التجار والمهنيين، الذين يحظون بدعم شعبي واسع، يُسهم في إلقاء الشكوك حول غايات هذه الاحتجاجات وسط مناخ اجتماعي يزداد توتراً يوماً بعد يوم. فبعض الوسائل الإعلامية يستنكر ما يعتبره تواطؤاً بين الفئات الشعبية المعارضة لأحكام قانون المالية لعام 2017، التي تقوّض العدالة الاجتماعية في نظرها، وبين طبقة التجار التي ازدهرت تحت أعين الدولة الريعية والتي تسعى إلى التهرّب من الضغوط الضريبية بأي ثمن. فيما يمكن استشفاف نبرة مختلفة في وسائل إعلامية أخرى تتحدث عن الريبة من التجار الذين لا تبدو مطالبهم متناسقة مع واقع حالهم، مضيفة أن هؤلاء لن يتأثروا إلا بشكل طفيف من قانون المالية الذي يرفع قيمة الضريبة على المنتجات النفطية والضريبة على القيمة المضافة. ووفق صحيفة «كل شيء عن الجزائر TSA» الإلكترونية، فإنّ «أثر رفع قيمة الضرائب محدود جداً... فهل يبرّر ذلك الدعوة إلى إضراب عام؟... وإنّ رفع معدل الضريبة على القيمة المضافة من 17% إلى 19% يعني أن المبلغ الذي ستتم جبايته في نهاية المطاف لن يزداد إلا ببعض الدنانير، وعلى أي حال، يمكن التجار المسجّلين حسب الأصول استعادة هذا المبلغ».

نمو القطاع غير الرسمي

لعلّ غضب التجار هذا يكشف عن إدراكهم الثاقب للمعضلة التي تواجهها الدولة وللمخاطر التي تتهددها. فمع الهبوط الحاد للعائدات النفطية (بنسبة 45%) باتت الدولة مضطرة إلى رفع معدل الضرائب، ولكن من دون إلحاق الضرر بالأنشطة الإنتاجية وبالفئات الشعبية الأكثر حرماناً. ويعود هذا المأزق إلى الضعف الهيكلي لاقتصاد البلاد الذي يعتمد كثيراً على قطاع النفط والغاز غير المستقرّ، والذي يمثل 97% من الصادرات الجزائرية. ولتجنّب المخاطر التي ستنجم عن أي مفاقمة للتوترات الاجتماعية، أبقت أحكام قانون المالية لعام 2017 على الدعم الحكومي للمنتجات الأساسية (الذي تُخصَّص له نسبة 27% من الميزانية العامة). ولكن هذا القانون يسعى في الوقت نفسه إلى الحد قليلاً من الدعم الحكومي الذي لا يمكن الميزانية تحمّله بصيغته الشاملة.
ومن هذا المنظار، ينبغي للدولة منع الصناعيين والتجار من رفع أسعار منتجاتهم وخدماتهم للتخفيف من أثر ارتفاع أسعار بعض منتجات الطاقة. ويفسّر هذا الهمّ جمود الخدمات العامة والضريبية والإدارية المتعلقة بتطبيق الأنظمة الخاصة بمكافحة الأنشطة غير الرسمية وممارسات التجار الاحتيالية. وبفعل تغاضي السلطات والشلل الإداري، ما زالت الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية تُسهم في ازدياد نسبة التهرب الضريبي. ويُعَد هذا الوضع وليد الحقبة الليبرالية في التسعينيات التي أنهت احتكار الدولة للاقتصاد، وفككت الشبكة التجارية في الجزائر. وقد أدى الانتقال إلى اقتصاد السوق إلى تحرير الأسعار وازدياد الاحتكار في الاستيراد واختفاء مراكز الشراء الجماعية، وسط حالة من ضعف السيطرة المؤسسية.

تزداد اليوم مشكلة
التهرب الضريبي مع هبوط العوائد النفطية
وقد شكلت هذه التطورات أرضاً خصبةً للنمو الهائل للقطاع غير الرسمي. فبحسب أرقام الديوان الوطني للإحصائيات، تهيمن الأنشطة التجارية اليوم على القطاع غير الرسمي، إذ إن 45.3% من الوظائف في القطاع غير الرسمي تندرج ضمن إطار الأنشطة التجارية، مقارنة بنسبة 37.4% لأنشطة البناء والأعمال العامة و17.3% للأنشطة الصناعية. وبالتالي، يعكس ازدهار السوق غير الرسمية منذ مدة عجز الدولة عن تلبية احتياجات الشعب، وخصوصاً الوظيفية.

حاجتان متناقضتان

فيما كانت الدولة قادرة على تحمّل مشكلة التهرب الضريبي في حقبة وفرة العوائد النفطية، تزداد هذه المشكلة اليوم حدّة مع هبوط العوائد النفطية وتوسّع نطاق الأنشطة غير الرسمية التي تستنزف ميزانية الدولة. وتجد السلطات نفسها بالتالي أمام حاجتين متناقضتين: فمن جهة، هي مضطرة إلى رفع معدلات الضرائب على التجار، بما يعنيه ذلك من إخضاع جميع أنشطتهم للمحاسبة واتخاذ إجراءات فعّالة لمكافحة الممارسات الاحتيالية. ومن جهة أخرى، فإن السلطات مضطرة أيضاً إلى الحؤول دون ارتفاع الأسعار في ظل الخفض التدريجي للدعم الحكومي، وذلك بهدف الحفاظ على السلم الأهلي الهشّ. ولدى معاينة المسألة من هذا المنظار، يمكن اعتبار أعمال الشغب في بجاية والمناخ الاجتماعي المتوتر نذيراً للأخطار المحدقة بالبلاد في غياب الإصلاحات الهيكلية للنظام الاقتصادي. لا بل إن تبلور هذه النزاعات بين القطاعين الرسمي وغير الرسمي على المدى البعيد كفيل بتهديد النظام السياسي الحالي.