لملمت مقاهي المدن الأوروبية وحدائقها قصص السوريين الواصلين إليها، وكشفت رواياتهم التي غطّت فضاء «فايسبوك» الأزرق عمق الادعاء والتباهي لأشخاصٍ هم في أفضل الأحوال «لاجئون». تسكن مها في الطبالة في ضواحي دمشق، وتكافح مذ غادرها زوجها عيسى إلى فرنسا قبل عام، لإطعام أولادها وتأمين حاجاتهم. أما الزوج فهو يكافح لإقناع زوجته بأن ضآلة حجمه أمام برج إيفل، ليست إلا حركة فنية لصورة كاميرا التُقِطت على عجل، وأنه يعيش «ملكاً» في باريس. تعرف أن زوجها بات رجلاً بوجهين، وجه للصباح يسرّح شعره، يتأنق، يلتقط الصور ويرسلها، وآخر للمساء يعاني كي يتدبر مصروفه. وتقول: «سنة وأنا أعيش على أمل اللحاق به، لكنه لم ينل الإقامة حتى الآن وظروفه صعبة جداً. كل ما في جعبته ذاكرة كاميرا تتسع لآلاف الصور، يلتقط ويرسل، وأنا مللت التصفّح». وتضيف بسخرية: «يريد مني أن أتذوق جمالية برج إيفل وأنا أسكن في عشوائيات الطبالة... قلت له أخيراً، توقف عن إرسال الصور، أرسل مالاً أو عُد إلينا».وتشرح أن ما يثنيه عن العودة هو «الخجل من الأهل والأصدقاء»، وتضيف: «نصحه الكثيرون بالبقاء هنا، حيث لا تزال هناك فسحة للعيش برغم ضيقها، لكنه أصرّ على طلب اللجوء. اليوم لا يستطيع أن يواجه من قدّم النصح له ولا يملك جرأة الاعتراف بالخطأ، هو الآن في نصف الطريق تماماً، لا يستطيع أن يكمل ولا يستطيع أن يتراجع». وتتابع «لا يملك الآن إلا التباهي بأنه في فرنسا، وأنا لا أملك إلا أن أتباهى معه أمام صديقاتي بأنه لاجئ قدّ الدني».
كل ما في جعبته ذاكرة كاميرا،
يلتقط ويرسل وأنا
مللت التصفّح

السياسة تغفو على الوسادة

أبو مجد، باع منزله وترك عمله كي يلحق بزوجته التي سبقته إلى ألمانيا بصحبة أولادهما، لكنه لم يستطع، بعدما قارب الخمسين من عمره، أن يتأقلم مع الحياة هناك ولم يتمكن من تعلم اللغة الألمانية، فطلب من زوجته أن تعود معه إلى جرمانا في ريف دمشق، لكنها رفضت، وعندما احتدّت الأمور بينهما، هدّدته باستدعاء الشرطة وطلبت الطلاق. عاد الزوج إلى البلد فارغ اليدين، من دون زوجة أو أولاد، وبلا بيت وعمل، بكثير من اليأس وخيبة الأمل والفراغ. ويقول: «اليوم أدركت ما معنى الديموقراطية، الديموقراطية هي التي تأخذ زوجتك وتسلبك أطفالك أمام عينيك بتشجيع وتصفيق من الناس، من دون أن تكون قادراً على ضم ولدك إلى حضنك».
تفككت العائلة في سوريا ما بعد الحرب، وفقدت الأسرة استقرارها، ليجد السوري اللاجئ نفسه فجأة أمام نمط جديد من الحياة والعادات والقوانين، حمل معه مشكلات جديدة وتناقضات لم يسبق له أن واجهها. وظهرت نتائجها في نسب حالات الطلاق المرتفعة، التي تنوّعت بين الطلاق الغيابي والهجرة والظروف المعيشية القاسية وفقدان المنازل والنزوح والمشاركة في الأعمال العسكرية. لكن الطارئ مع الحرب كان الطلاق بسبب السياسة! إذ وصل الانقسام بين موالاة ومعارضة، إلى داخل العائلة الواحدة، وبات خراب البيت جزءاً من خراب البلد وسمة من سمات الحرب.
ردينة، لم تنل الطلاق رغبة منها ولا اندفاعة أو حماسة، بل لأنها مؤيدة، فيما زوجها معارض. وعند سؤالها عن مصير الأولاد، تجيب: «هم ينتظرون أن يستوعبوا ما يحدث كي يعلنوا انشقاقهم عن أنفسهم». اختلاف المواقف خلال الأزمة تجاوز الطلاق ليصل إلى القتل في حالات عدة. ووردت بعض الأخبار التي تقول بأن زوجاً «أردى زوجته على خلفية ملاسنة أعلنت فيها الزوجة تأييدها للنظام».
حالات القتل تلك، سبقتها إحصاءات نشرتها «الهيئة السورية لشؤون الأسرة» عام 2012، أظهرت أن نسبة النساء اللواتي تعرّضن لأي شكل من أشكال العنف الأسري وصل إلى 22%، تنقسم بين 26% للعنف النفسي، و18% للعنف الجسدي، و4% للعنف الجنسي. وبحسب نتائج الدراسة، فإن 45% من النساء يتعرضن لهذا النوع من العنف، في حين تتعرض غالبية النساء في الدراسة للعنف بصورة متكرّرة. أما نسبة الطلاق في سوريا، فقد وصلت في نهاية 2013 إلى 100 حالة يومياً، وفق تقرير نشرته صحيفة «تشرين» الرسمية، فيما وصل مجموع حالات الطلاق عام 2014 إلى 9 آلاف حالة.

المرأة تمسك الهراوة...

نمط الحياة الجديد الذي فرضته ظروف الحرب والهجرة كانت له إيجابياته تماماً كما سلبياته. ففي أوروبا، وجدت المرأة السورية نفسها في بلدان متحضّرة تقدم دعماً مادياً وتتيح للمرأة التي ترغب في الانفصال عن زوجها سكناً منفصلاً، ومصدراً للدخل يعيلها وأولادها. وهو ما شجع العديد من النساء على طلب الطلاق، لتنقلب الأدوار ويصبح الزوج هو السجين، والزوجة هي السجّان. ويبدو أن المرأة أمسكت الهراوة جيداً هذه المرة، فمنذ وصولها إلى «أرض الحرية» كما ترى، بات على الزوج أن يدفع ثمن التكلّم بصوت عال في وجهها. في السويد مثلاً: كانت هناك أعلى نسبة طلاق بين اللاجئين وفق كلام منسوب الى مديرة «المركز التخصصي للتأهيل والإرشاد» في العاصمة ستوكهولم، أنيكا أستروم، يوضح أن عدد حالات الطلاق وفقاً للإحصاءات وصل إلى 86 حالة عام 2015. وعلى العكس، واجهت المرأة السورية في دول عربية كلبنان والأردن، ظروفاً قاسية أبقتها أسيرة الزوج لعدم توفر المكان أو المعيل أو العمل في حال انفصالها عن زوجها.
لينا لم تطلّق زوجها! بل «طلّقت الحياة السورية» كما تقول، موضحة: «رأسي مليء بالندب منه ومن الناس الذين عشت معهم هناك في صحنايا في ريف دمشق، ويبدو الأمر كأني أنتقم من دون أن أعي ذلك. أحاول أن أحيي ما تبقى مني على قيد الحياة، لم يعد باستطاعة زوجي أن يتاجر بخوفي منه ومن أهله ومجتمعه وحتى من القانون السوري نفسه». وتتابع: «هنا، لا تعادل شهادة الرجل شهادة امرأتين، وتفوز النساء الألمانيات بمباريات كرة القدم، من دون أن تفقد أجسادهن شيئاً من روح الأنوثة، ومن دون أن يتحولن إلى نساء بشوارب إذا ما ركضن وراء الكرة في ملاعب مطوّبة باسم أقدام الرجال، لا تثير المرأة هنا الضحك إذا ما ركبت دراجة هوائية، ولا تثير الشكوك إذا ما قررت السير وحيدة في الصباح الباكر، أو عادت متأخرة عند منتصف الليل».
أما أسباب خديجة التي دفعتها إلى طلب الطلاق بعد وصولها إلى ألمانيا، فهي تتعلق بنظرتها إلى نفسها كامرأة. فهي تعترف بأنها لم تحب نفسها يوماً، لأنها لم تكن موجودة أصلاً. خلعت خديجة حجابها وجلبابها وجلست أمام المرآة. «نتفت» حاجبيها لأول مرة، ردّت شعرها، ووضعت أحمر الشفاه. جرّبت ارتداء الشورت، بدّلت بالألوان وغيّرت المقاسات، وتقول: «لم أقدر إلا أن أنظر طويلاً إلى هذا الوجه الجديد الذي ظهر في المرآة». هي «الحرية»... تقول خديجة: «تلك التي تحررك من نفسك أولاً، من بعدها لن تتوقف أمام أحد إلا أمام المرآة».