منذ بدء عمليات الموصل، منتصف الشهر الماضي، كانت بغداد تقف أمام خيارين: إما القبول بالدور التركي في شمال البلاد تحت سقف مشاركة أنقرة في أعمال «التحالف الدولي» الذي تقوده واشنطن، وإما مواصلة الصدام الدبلوماسي معها. كان واضحاً أنّ رئيس الوزراء حيدر العبادي سار وفق الخيار الثاني، محاولاً المناورة بين الأميركيين والأتراك وقوى أربيل من جهة، والمحور المقابل الذي تتعاون ضمنه كل من موسكو وطهران ودمشق.لكن يبدو أنّ من شأن كلمة زعيم تنظيم «داعش» أبو بكر البغدادي، فجر أمس، التي دعا فيها مسلحيه إلى «الثبات والقتال في الموصل» و«غزو تركيا»، تغيير المعادلات بالنظر إلى أنّ أنقرة باتت تمتلك ذريعة لفرض حضورها في الشمال العراقي. ومن الناحية العملية، يمكن الاستنتاج أنّ البازار الإقليمي المفتوح حول الموصل ومحافظتها، نينوى، دخل مرحلة حسم الاصطفافات.
بعد خطاب البغدادي أيقن فريق العبادي أن لا حسم سريعاً للمعركة

في بغداد، تصف مصادر قريبة من رئيس الوزراء العراقي المشهد كالآتي: ترضى واشنطن على العبادي من جهة، وتضغط عليه من جهة أخرى لاسترضاء تركيا، خاصة أنّ الأميركيين يريدون المشاركة التركية للاستفادة منهم في معارك «التحالف الدولي» في الشرق السوري. وترى مصادر رفيعة المستوى في بغداد أن «واشنطن تريد أن تقطف ثمار معارك الموصل ــ دير الزور ــ الرقة لمصلحتها، وهو أمرٌ بحاجة إلى قوّة ميدانية تشكّلها القوى الكردية السورية، وفصائل الجيش الحر وقوى أخرى، بدعم أميركي وتأييد ومشاركة من تركيا»، فيما يعرقل رفض بغداد ــ ومن خلفها موسكو وطهران ــ شرعنة الدور التركي في الشمال هذا المشروع. هنا بدأ الابتزاز الأميركي للعبادي. بلغ هذا الابتزاز مستويات عالية خلال الأيام الماضية، في وقت كانت فيه الرعاية الأميركية للمفاوضات العراقية ــ التركية تخفق. ولعلّ سبب الإخفاق أنّ العبادي لا يريد تخطّي خطاً أحمر مع كل من موسكو وطهران.
تروي مصادر عراقية مطّلعة أن أحد أشكال الابتزاز الذي تعرّض له رئيس الوزراء العراقي، مؤخراً، وقع حين «زار غرفة العمليات المشتركة في منطقة القيارة (قرب الموصل)». وتشرح المصادر أنه «عندما حطّت طائرته في قاعدة القيارة الجوية التي تتخذها القوات الأميركية مقرّاً لها، منع الأميركيون العبادي من النزول من طائرته لعدم حصول طائرته على موافقة مسبقة، ما اضطره إلى الخروج من القاعدة نحو العمليات». وتضيف أنّ «رئيس الحكومة، ذا الولاء الأميركي، حينما أنهى جولته وأراد الرجوع إلى القاعدة، أخبرته القيادة الأميركية عدم موافقتها على بقاء الطائرة في القاعدة، فأقلعت باتجاه قاعدة سبايكر في محيط مدينة تكريت، ما اضطر موكبه للرجوع إلى هناك».
تلخص المصادر مجمل المشهد بالقول إنّ العبادي «ضائع» نتيجة الضغوط التي يتعرّض لها. هو يحاول استرضاء واشنطن ودول «التحالف»، ويرى فيهم «شركاء النصر على داعش»، بينما يسعى في الوقت نفسه إلى الحفاظ على الودّ الروسي ــ الإيراني. لكن المصادر تستدرك أن المعطى الإقليمي والميداني، والكباش الواقع، باتا يفرضان على العبادي خياراتٍ أحلاها مُرّ.
رغم ذلك، فإنّ مناورة أخرى يعمل عليها العبادي حالياً، بدلاً من اتخاذ بغداد لموقف واضح. وتؤكد مصادر متقاطعة أن العبادي عيّن نائب قائد عمليات «تحرير نينوى»، اللواء عبد الكريم الشويلي، مندوباً عن القوى العراقية في غرفة عمليات «الحشد الشعبي» في تلول الباج، لتأمين غطاء مؤسّساتي عراقي لـ«الحشد». وتوضح أنّ مطلب العبادي سيكون «دخول نخب من قوى الحشد إلى ساحل الموصل الأيمن»، وهو أمر لم تأخذ بعد القوى المشكّلة لـ«الحشد» موقفاً جامعاً بخصوصه (بعض أطرافه الأساسيين يبدون استعدادهم لمهمة كهذه، رغم أنهم يحاولون قدر المستطاع تجنّب هذا الخيار الذي سيكلّف ضريبةً بشرية ومادية).
ووفق مصادر بغداد، فإن المعركة التي دخلت أسبوعها الثالث، وأمل العبادي أن يضبط إيقاعها، متأمّلاً بنصرٍ سريع على «داعش»، ستنحو باتجاه آخر كليّاً. فبعد خطاب البغدادي، أيقن فريق العبادي أن لا حسم سريعاً، وأن المعركة طويلة الأمد، وكبيرة الكلفة، وستفرض على رئيس الوزراء خيارات لطالما حاول الهرب، منها: المجاهرة بضرورة «الحشد» وطلب معونته على مساحة أوسع لتحقيق الإنجاز من دون الدخول في نفق الاستنزاف، وهو أمرٌ يشكّل استفزازاً لأميركا وتركيا. ويبقى الخيار الأصعب عليه، كما يبدو، رفع التنسيق مع دمشق وحلفائها إلى مستويات جدية.