مرّ عام، ولم تُسقط السماء ذهباً ولا فضة على رؤوس المصريين. مرّ عام على حكم عبد الفتاح السيسي لشعب متحفِّز وغاضب وساخر ومنتظر، ولم «يتحنن» على الأغلبية، التي أيدته بصورة مطلقة وانتخبته رئيساً عقب «انتفاضة 30 يونيو» على «الإخوان المسلمين». مرّ قطار السيسي بمحطات كثيرة لم يتوقف ليستمع إلى أحد، ولم ينتبه إلى أن الجماهير التي كانت تصطف حول أرصفة المحطات لملمت أعلامها وأغراضها في البيوت والمقاهي لا تلوي على شيء. باتت شعبية السيسي، في الذكرى الأولى لتنصيبه رئيساً أثراً بعد عين، وليس ما يدل على ذلك أرقام استطلاعات الرأي التي أشارت إلى انخفاض نسبة التأييد تحت سقف «التسعين»، ولكن ملامح الناس هنا تقول ذلك.
كثرة الخيبات التي مُني بها المصريون في حكامهم أورثتهم الحكمة والشك في كل حاكم جديد. فيصبرون عليه «حتى الآخر»، ثم يثورون، لأنه «لو دامت لشجرة الدر لما وصلت لك يا حبيبي». الرجل الذي صكّ له بسطاء المصريين لقب «عبد الناصر الجديد»، وبدا أن القصة أعجبته وأشعرته بثقة كبيرة في النفس، لم ينتهز الفرصة التاريخية، فرمى الصك في الأرض، وظهر أنه بعيد تماماً عن جمال عبد الناصر، بل أقرب إلى حسني مبارك في آخر أيامه!
إذاً، وجّه السيسي أول ضربة صديقة لشعبيته. فهو بعد عام بات من دون خبرة سياسية في الحكم ولا رؤية لإدارة البلاد، رغم أن الناس تعاطفوا معه عندما ظهر مرشحاً رئاسياً من دون برنامج مكتوب. قال المتعاطفون في ذلك اليوم: «اصبروا على الزعيم. إنه خارج من معمعة إقصاء الإخوان من الحكم». ذبل التعاطف رويداً رويداً، وزاد القلق، بعدما تصدر وجوه نظام مبارك الأب، والابن (جمال)، المشهد السياسي بأحزاب وقنوات فضائية ومال سياسي، والأنكى أنهم يلعبون هنا وهناك من أجل مصالحهم الشخصية حارقين في طريقهم شعبية السيسي!
الضربة الثانية لشعبية السيسي وجهتها البرجوازية الصغيرة، التي راهنت على الرئيس الجديد في إحداث تغيير لوضعها الاقتصادي والاجتماعي، ولكنها فوجئت به أخيراً ينحاز إلى الأغنياء، فيُجمّد قرار تطبيق الضريبة على الأرباح الرأسمالية على البورصة، ويُطبق سياسات مبارك الاقتصادية نفسها، كذلك فإنه ينفذ شروط صندوق النقد الدولي، ويرفع الدعم عن الوقود، فترتفع الأسعار، ويزداد الغموض والخوف من الآتي.
بات نظام السيسي يستنسخ نظام مبارك الاقتصادي (الرأسمالية المشوّهة)، والآن نسب البطالة في ارتفاع، ومعدلات الفقر أيضاً تزداد، والدولة مستمرة في دعم السوق الحر بشعارات رنّانة ومؤتمرات ضخمة عن جذب الاستثمار والمستثمرين، ومشروعات اقتصادية عملاقة، كمشروع قناة السويس، وهي ذات طابع دعائي أو عقاري لا إنتاجي. مجنون من لا يصدق أن كل شيء خارج عن سيطرة الدولة في ما يتعلق بالموارد الاقتصادية، وهذا يساعد على انتشار الاحتكار وفوضى الأسعار، وبعد كل ذلك يأتي السيسي ليقرر (قبل أشهر) تحرير الدعم عن الطاقة، جزئياً، وذلك تمهيداً لإلغائه خلال السنوات الأربع المقبلة.
الضربات التي تلقتها شعبية السيسي كثيرة، من بينها الشعور العام بتراجع الديموقراطية ومؤشرات حقوق الإنسان، وغلق النوافذ أمام الأصوات الإعلامية المعارضة. فبرغم كل خطايا «الإخوان»، فإن النظام الحالي لم يقدم نفسه كبديل جيد، ولم يتقدم في أي ملف وخاصة «الحرب على الإرهاب».
وإذا كان نظام محمد مرسي متهماً بقتل الشباب عند قصر الاتحادية، فإن نظام السيسي متساوٍ معه، فهو لم يُنصفهم ولم يف بوعده بتمكينهم، ويكفي أن المئات من شباب الثورة، وعدداً مُعتبراً من الصحافيين والمعارضين من تيارات مختلفة، لا يزالون في السجون، بينما رجال مبارك خارج الأسوار يلمعون هالاتهم القديمة ويستعيدون أدوارهم في «عالم البزنس».
كل هذا أسهم في خلق فراغ سياسي. ولهذا الفراغ أكثر من زاوية: أبرزها عجز النظام الحالي أو رغبته عن استكمال بناء مؤسسات الدولة، فتعطيل استكمال «خريطة الطريق» بإجراء الانتخابات البرلمانية، دليل على ابتعاد السلطة عن تنفيذ وعودها، وتأخير بروز برلمان، قد ينافس نظرياً، الرئيس، في بعض الصلاحيات، ومنها سلطة التشريع.
الزاوية الأخرى تقول إن مصر باتت بلا أحزاب سياسية بعد عام من حكم السيسي، فقد تفككت ما كانت تُسمى «جبهة الإنقاذ» بعدما قصرت دورها على الحشد الجماهيري في مواجهة «الإخوان» وتسليم الراية للسيسي. هذا أظهر أن مصر بلا أحزاب مدنية عدا أحزاب الأفراد التي تسبّح بحمد الرئيس. بل إن السيسي غير مبالٍ بفكرة الحياة الحزبية، وبطريقة أو أخرى، أسهم في تكريس مناخ عدائي للأحزاب والتيارات المعارضة، التي شاركت في ثورتي 25 يناير و30 يونيو.
رغم ذلك، تصر بعض مراكز استطلاع الرأي العام على أن شعبية السيسي كبيرة ولم تتراجع. وآخر الاستطلاعات أجراها «مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار»، قائلاً إن رأي المصريين في عبد الفتاح السيسي هو «شعور نحو 67% من المواطنين بأن الأوضاع في مصر تسير نحو الاتجاه الصحيح، في حين أشار إلى أن 84.6% من المواطنين يرون أنَّ أداء الرئيس إيجابي فى الوقت الراهن».
مركز استطلاع آخر، قريب من السلطة، هو مركز «بصيرة»، قال إن نسبة المؤيدين للرئيس «بلغت في نهاية الشهر العاشر من عامه الأول، أعلى قيمة لها منذ توليه الرئاسة حيث بلغت 89% مقابل 82٪ في نهاية المئة يوم الأولى له، و86% بعد أول 6 أشهر من توليه الرئاسة»!
هذه المراكز، والكلام لأستاذ الإعلام في جامعة القاهرة محمود خليل، تُعطي نتائج مغايرة للواقع، «فحكومة نظيف التي خرج عليها المصريون في ثورة يناير تحصلت على استطلاع رأي من مركز المعلومات في مجلس الوزراء، يقول إن غالبية الشعب تؤيدها». كان هذا قبل اندلاع ثورة يناير بأيام. والعينات التي تنشرها هذه المراكز تستهدف تعبئة الرأي العام لمصلحة الرئيس، إذ «توفر المادة الرقمية لوسائل الإعلام فرصة لخلق الجدل في أوساط الرأي العام».
حال كهذه لو استمرت، فلن يبقى من شعبية السيسي شيء، في السنوات المقبلة، وفرصه ستكون ضئيلة جداً في أي انتخابات رئاسية نزيهة (حال عُقدت). عبد الله السنّاوي، وهو أحد الكتاب المقربين من السيسي، يقول إن شعبية الرئيس تراجعت، وهي مرشحة للانهيار أكثر... «إذا لم يوقف رجال مبارك عند حدهم، ويُصلح الأجهزة الأمنيّة، والقضائية والإدارية، ويدعو إلى حوار وطني، ومؤتمر للعدالة الاجتماعية، سيفاجأ بغضب جماهيري عارم. سيواجه كل هذا وحيداً لا نصير له».