غيّرت سنوات الحرب حال حسن الذي كان يعيش «على قد حاله» معتمداً على بيع الخبز اليابس في حي المزة الدمشقي، لتأمين قوت عائلته. فهو اليوم يمتلك وأخوته عدة «محاضر» بناء كاملة تقدّر قيمتها بمليارات الليرات بعد امتهانه «التعفيش». بدوره، تحوّل أبو محمد من «معتّر» الحارة وفق جيرانه إلى «البيك»، بعدما كان يدق بيوت الجيران للاستدانة لكون راتبه كان بالكاد يكفيه، غير ان الأخير «لم ينكر فضل جيرانه وبقي حافظاً لمعروفهم».وبرغم توسّع نطاق «التعفيش»، فهو يبقى جزءاً من حلقة واسعة من مصادر الإثراء غير المشروع، تراوح بين الاتجار بالمحروقات والعملات والسلاح في السوق السوداء وصولاً إلى عمليات الخطف والابتزاز. ويتفوّق التهريب بشتى أنواعه على غالبية المصادر، ويروي أحد التجار (رفض ذكر اسمه) أن شخصاً يلقّب بـ«غوار» يدير عمليات التهريب على طريق حمص ــ دمشق ــ بيروت، بات يمتلك ملايين الدولارات، وهو يحوّل جميع أمواله من الليرة إلى الدولار وينقلها إلى خارج البلد.
وحول موضوع التهريب، يوضح رئيس اتحاد غرف التجارة السورية غسان القلاع، أنه «يعد المصدر الأكبر لتحصيل أمراء الحرب أموالهم، دون قدرتهم على استثمارها بالطرق الصحيحة لعدم امتلاكهم الخبرة والأخلاق». وبدورها، تشير الوزيرة السابقة والباحثة الاقتصادية لمياء عاصي، إلى أن تجارة السلاح والنفط هي الأكثر تحصيلاً للثروة في كل أنحاء العالم، مضيفة أنه في سوريا يضاف إليها «تهريب السلع والأموال» وما يسمى «اقتصاد العنف» كالخطف والاتجار بالبشر والسرقة والنهب. وتلفت إلى «غياب تقديرات دقيقة لحصر أموال أثرياء الحرب ومعرفة مصادرها، وأي حديث عن ذلك ليس سوى مجازفة لا أكثر».
يتصدر بعض «التجار» أماكن مرموقة اجتماعياً وسياسياً

ثروات زائلة

يرى رئيس اتحاد غرف التجارة السورية أن «ثروات أمراء الحرب» ستزول بعد نهاية الأزمة لكونها «حُصّلت بدون تعب»، لافتاً إلى أن «الثروة التي جناها صاحبها بعرق جبينه تورث لجيلين فقط، فكيف سيكون مصير المال الحرام». ويوضح أن «مالكي هذا المال يلجأون عادة إلى تهريبه خارج البلد، خوفاً من المساءلة، أو ربما استثماره في الذهب والعقارات، لذا لن يكون لهم دور بإدارة الاقتصاد مستقبلاً»، مضيفاً أنه «قد يتمكن 10% منهم من دخول عالم الأعمال مع أن حجمهم سيتقلص لاحقاً لأن الجميع يعرف مصدر ثرواتهم».
من جانبها، ترى عضو مجلس إدارة غرفة صناعة دمشق وريفها مروة الأيتوني القلاع، أن «من الضروري تنظيف هذه الأموال بتدويرها والعمل على إدخالها إلى خزينة الدولة عبر مشاريع استثمارية متنوعة تنعش الاقتصاد الوطني». وتؤكد بدورها عدم قدرة «الأغنياء الجدد» على إدارة مشاريع خاصة بهم، ليكون الحل برأيها بـ«مشاركة التجار والصناعيين فيها دون بيعها لهم، ولا سيما بعد تضررهم الكبير جراء الحرب»، مشددة على «وجوب حصول استثمار ذكي لأموالهم بدل محاسبتهم بحيث تضمن الدولة بقاءهم تحت عيونها بهدف تدويرها محلياً بدل تهريبها واستفادة بلد آخر منها».
وتعتقد الدكتورة عاصي أنه «سيكون للأثرياء الجدد الذين لمع نجمهم أثناء الحرب دور كبير في الاقتصاد الوطني بغض النظر عما يقال أو يتمنى البعض، والحديث عن ضرورة مساءلتهم قد يرضى الكثيرين وخاصة المواطنين الذين يرون أن فقرهم ناجم عن إثرائهم غير المشروع»، متسائلة عن إمكانية أن تؤدي تلك الرغبات إلى حل وخاصة في ظل الفوضى الاقتصادية والاحتكار. وتعود لتؤكد أن «المساءلة ممكنة لبعض الأغنياء الصغار لكنها شبه مستحيلة للحيتان الكبار، بسبب شبكات الفساد المسيطرين على معظمها».

ليسوا تجاراً

لم ينتظر أمراء الحرب انتهاءها لتسلّم مناصب مهمة تبيّض صفحاتهم، فاليوم يتصدر بعضهم أماكن مرموقة اجتماعياً وسياسياً وبرلمانياً، وفق المدير العام لـ«مجموعة الجودة للدراسات» ماجد شرف، الذي يرى أن «الحرب خلقت تجارا مزيفين حديثي الظهور، أسماؤهم ليست متداولة ولا يملكون تاريخاً تجارياً معروفاً، ليبقى الأمر الأكثر قلقاً برأيه دخولهم في المناقصات العامة واستيراد السلع الاستراتيجية».
ويرفض القلاع تسمية هؤلاء «التجار»، فبرأيه اضطر عدد كبير من التجار بمن فيهم الكبار لترك العمل التجاري لعدم توافر شروطه وخاصة بعد الإشكاليات بمنح إجازات الاستيراد وإغلاق المعابر الحدودية والتمويل بالقطع الأجبني، ما أتاح المجال لظهور طبقة جديدة مارست العمل غير النظامي عبر تهريب الأموال إلى الدول المجاورة وتوصيل البضائع المهربة إلى الأسواق، موضحاً أنهم «جنوا ثروات ضخمة استبدلوا كتلتها النقدية الكبيرة بالقطع الأجنبي عند انخفاض الليرة، ما أثر على المواطن والتجار المتوسطي الحال، ودفع كبار المستوردين للإحجام عن العمل لعدم مقدرتهم على مجاراة المهربين حفاظاً على أسمائهم وسمعتهم». وسبب عدم مشروعية أموال هؤلاء «الأغنياء» تخوّفاً لدى عديد من التجار والصناعيين من تحكمهم في الاقتصاد مستقبلاً، لكن البعض أظهر تفهماً باعتبارهم أصبحوا أمراً واقعاً. وهنا تدافع الصناعية الأيتوني عن رأيها بالقول إنه «يجب استثمارها (أموالهم) بطرق غير مباشرة بحيث لا يظهرون بالواجهة بعلم الدولة، دون الإفصاح عن ذلك»، مشيرة إلى أن سوريا لن تكون الدولة الوحيدة التي اتبعت هذه الطريقة، «حيث مرت ألمانيا بالتجربة ذاتها وأنعشت اقتصادها عبر استثمار أموال أمراء الحرب».
ومن جهتها تؤكد الدكتورة عاصي وجوب أن تكون الدولة «حاذقة بإطلاق حُزم استثمارية ميسرة تلزم أصحابها توظيفها في القطاعات الإنتاجية مقابل محفزات معينة، على أن يكون التطبيق على أساس القانون على نحو متساو» شارحة أن «التركيز على فئة معينة وإقصاء أخرى سيتسببان بهروب سريع للرساميل السورية».