تونس | يوم إعلان لجنة الانتخابات عن فوز الباجي قائد السبسي بالرئاسة، ألقى الرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي خطاباً أمام المئات من مناصريه ــ الذين كانوا في غالبيتهم من قواعد «حركة النهضة» ــ وأكد قبوله نتائج الانتخابات برغم الإخلالات التي شهدتها. وأعلن في الخطاب ذاته تشكيل «حراك شعب المواطنين» الذي عرفّه آنذاك بأنه يمثّل الإطار «لمواصلة طريق الثورة ومقاومة منظومة الاستبداد التي عادت».حينها لم تولِ «النهضة»، التي التزمت «الحياد» في الانتخابات الرئاسية، إهتماما كبيرا لهذا الحراك أو لقواعدها التي صوتت لحليفها القديم ضمن «الترويكا» الحاكمة حتى نهاية 2013، والتي كانت قد انبثقث عن انتخابات 2011، وضمت «النهضة» وحزب المنصف المرزوقي و»التكتل من أجل العمل والحريات».

ظلّ «حراك شعب المواطنين» الذي أعلنه المرزوقي مبهماً، ويشوبه الغموض. وغاب المرزوقي عن الساحة لفترة قبل أن يعقد في 25 نيسان الماضي مؤتمراً تحضيرياً لحراكه، ألقى خلاله خطابا محملا بالرسائل السياسية التي تستهدف قواعد «النهضة».
مثّل ذلك الخطاب إشارة خطر لـ»النهضة»، خصوصاً أنها بعد الانتخابات تحالفت مع عدوها السابق والعدو الأزلي لقواعدها، حزب الرئيس الحالي، الباجي قائد السبسي، حركة «نداء تونس».

الهدف: قواعد «النهضة»

عكس خطاب المرزوقي خلال المؤتمر التحضيري تكتيكات سياسية جديدة، إذ كان يعلم جيداً أن هناك تململا في صفوف قواعد «النهضة» ومناصريها بسبب تحالف حركتهم مع «نداء تونس» وبسبب موقف رئيسها، راشد الغنوشي، بخصوص عدد من القضايا، والتي يرون أنها مهادنة وفيها استسلام لعدوهم «النداء»، وهو الأمر الذي مثّل خيبة أمل لدى فئات منهم بعدما هتفوا طويلاً على وقع خطابات قيادات «النهضة» ووعودها بعدم التراجع عن تحقيق العدالة الانتقالية، وبخاصة مبدأ المحاسبة.
ركّز المرزوقي على ما تطلبه قواعد «النهضة» وحاول إثارة حماستهم

كان تركيز المرزوقي على ما تطلبه قواعد «حركة النهضة»، وحاول إثارة حماستهم حين أكد أن «تونس ليست بحاجة للتطبيع مع النظام القديم خوفاً من قدرته على الإيذاء»، في تضاد تام مع مواقف وتصريحات، راشد الغنوشي، وخصوصاً تلك التي برّر فيها التنازلات المقدمة على أنها تجنّب البلاد الفوضى.
وذهب خطاب المرزوقي في أحد جوانبه إلى الدعوة لضرورة العودة لتعاليم الإسلام، وهو كلام أهدافه واضحة لجهة استهداف قواعد «النهضة»، ومن خلفها الحركة ككل.
عموماً، بعد ذلك الخطاب الذي أعلن خلاله المرزوقي أنّ «حراك شعب المواطنين» سيكون الإطار السياسي الذي سيعدّل موازين القوى المختلة في تونس، شعرت «النهضة»، ورئيسها، أن الحليف القديم يحاول سلبهما من القواعد، وخاصة أنه اتهم «النهضة» صراحة بعدم التقدم في محاربة الفساد خلال إمساكها بمقاليد السلطة في تونس وعبّر عن ندمه لعدم استقالته من حكومة «الترويكا».

استشعار الخطر

كان رد «النهضة» سريعاً بعد استشعارها الخطر الذي يمثله المرزوقي. القيادي في «الحركة»، لطفي زيتون، رأى حينها أن «حراك شعب المواطنين» لا يمثّل أي تهديد لحركته، معتبراً أنّ الدعم الانتخابي الذي حظي به الأخير من قواعد الحركة خلال الانتخابات الرئاسية جاء في ظرف تميّز بوجود بعض الخلافات الداخلية، موضحاً في الوقت نفسه أنّ الحركة باتت موحّدة خلف خط سياسي واضح وتصور يتمثل في تبنيها للخط التوافقي، أي فكرة أن البلاد تحتاج إلى مصالحة وطنية شاملة وتنازلات من كل الأطراف لطي صفحة الماضي والعبور بتونس إلى الاستقرار.
وتابع زيتون قائلاً «من المغالطة أن يقول محمد المنصف المرزوقي إنه ندم لعدم تقديم استقالته وهو يرى الفساد خلال حكم الترويكا، فالجميع يعلم أن حركة النهضة تخلت عن الحكم طواعية وهو من تشبث بالكرسي للحظات الأخيرة بل وأراد البقاء في السلطة لخمس سنوات أخرى».
أما عضو التنسيقية المركزية لـ»حراك شعب المواطنين» والمستشار السياسي للمرزوقي، عدنان منصر، فأكد أنه لا وجود لعلاقة بينهم وبين «النهضة»، بل يسود العلاقة نوع من البرود وغياب أي تواصل بين القيادات من الجانبين. وأوضح: «ليس المقصود برودة عدائية... ولكن هناك تواصل على مستوى القواعد»، مضيفاً أن «جزءا من القيادة العليا للحركة أدى دورا في بلوغ قائد السبسي الرئاسة، بما في ذلك راشد الغنوشي».

عاصفة البترول

انقضت الفترة الأولى من العلاقة المستجدة بين الطرفين، وعم هدوء سبق العاصفة التالية، التي تمثلت بحملة «أين البترول؟»، وهي حملة تطالب الحكومة بالشفافية وفتح ملف الطاقة في تونس. هذه الحملة التي ما زالت متواصلة، بدأت على صفحات التواصل الاجتماعي وتبنتها جمعيات قريبة من المرزوقي، الذي دعمها وتحولت إلى احتجاجات في الشارع، شاركت فيها قواعد «حركة النهضة» دون إذن القيادة المركزية.
مدير مكتب الغنوشي، زبير الشهودي، لم ينف مشاركة قواعد حزبه في التحركات الاحتجاجية، مبرراً ذلك ضمن نشاط هؤلاء في منظمات المجتمع المدني. وأكد أن موقف الحركة السياسي معروف وتضبطه القيادات وما على القواعد سوى الالتزام بالخط العام برغم أنه ليس من السهل ضبط القواعد الموسعة.

ضرب المرزوقي في مقتل

مشاركة فئات من قواعد «النهضة» في تحركات احتجاجية لم تدعُ لها قيادات حركتهم لا بل يحركها نسبياً الحليف السابق، المرزوقي، يبدو أنها تمثّل ناقوس خطر للحركة، لذا سارع رئيسها، راشد الغنوشي، أواخر الأسبوع الماضي، للتوجه إلى محافظتين في الجنوب التونسي (تطاوين ومدنين)، حيث كان قد حصد المرزوقي في الانتخابات الأخيرة نحو 80 في المئة من الأصوات.
عقد الغنوشي هناك اجتماعات مغلقة مع قواعد حركته. خلال تلك الاجتماعات شرّع الرجل المطالبات بالشفافية وفتح ملفات الطاقة في تونس، لكنه أكد أن من يقود هذه الحملة هم من الذين اقصاهم صندوق الانتخابات ــ في إشارة تبدو واضحة للمرزوقي ــ موجهاً التهم إليهم بإثارة الفوضى والركوب السياسي على الأحداث لتوظيفها واستغلالها لإرباك البلاد وافشال الانتقال الديموقراطي.
ويمكن اعتبار تصريحه، أول من أمس، أكثر حدة ووضوحاً بخصوص مشاركة قواعده في الاحتجاجات، حين قال إنّ «قواعدنا ليست ملكا لنا، ولكن موقفنا واضح بخصوص الحملة والتحركات وقرار المؤسسات هو الذي يقع اعتماده، ومن يخرج عنه من قواعدنا يجد نفسه... لن يتوصل لشيء».
وبرغم التزام المرزوقي الصمت، وكذلك القيادات المحيطة به، مقرّين فقط بدعمهم للحملة، لكن يبدو واضحاً أنّ «النهضة» ورئيسها واعون لفكرة أنّ الحملة تحمل في طياتها مناورة سياسية وتمثل حصان طروادة لاختراق القواعد الشعبية والانتخابية واستمالاتها، فكان موقف الغنوشي الواضح من الحملة وإشارته للمرزوقي ــ وإن بالتلميح ــ واتهامه بمحاولة إدخال البلاد في الفوضى، نهاية لعلاقة تحالف تخللها برود، وانتهت بعداء.