أقلّ ما يشي به إقرار جيش العدو الإسرائيلي بإخفاقاته في الحرب الأخيرة على قطاع غزة، أنه واجه نوعين من الفشل: استخبارياً وعملانياً. الإخفاق الأول يتصل بقصوره عن إدراك حجم خطورة الأنفاق، واستمرار إطلاق الصواريخ طوال أيام الحرب، والثاني كونه لم يوفر رداً عسكرياً ملائماً لهذه التهديدات. وتكشف هذه الإخفاقات عن القيود التي تواجه إسرائيل، رغم امتلاكها أعلى درجات التطور التكنولوجي والعسكري، في مواجهة حركات المقاومة في فلسطين، وبالتأكيد في لبنان.عملياً، تعددت مصاديق الفشل الإسرائيلي في الحرب على غزة قبل نحو سنتين، من استمرار القصف الصاروخي لمساحات واسعة من العمق الإسرائيلي طوال الحرب، إلى الخسائر البشرية المؤلمة التي تلقاها الجيش، فضلاً عن استمرارها مدة 51 يوماً، وهو ما يتعارض مع مبدأ المعارك الخاطفة التي يحرص عليها الجيش الإسرائيلي... وصولاً إلى «سلاح الأنفاق»، الذي كان أحد أهم المعالم الرئيسية التي اتسمت بها المعركة، وأظهرت به فصائل المقاومة الفلسطينية صموداً وإبداعاً أربكا الحسابات والتقديرات الإسرائيلية، بل نقل الأزمة إلى الداخل الإسرائيلي بين الجمهور وقيادته، وبين القيادة السياسية والأمنية، وداخل القيادة السياسية نفسها.
مع ذلك، ينبغي القول، إن محدودية النتائج السياسية لهذه الحرب لم ترتق إلى حجم صمود المقاومة ونجاحاتها العملانية والتكتيكية، وأيضاً مع طموحات جمهور غزة؛ يعود ذلك إلى مجموعة عوامل، منها الطوق الإقليمي إضافة إلى القيود المفروضة على المقاومة في الضفة المحتلة، التي كان يمكنها أن تشكل عاملاً مؤثراً جداً في ردع العدو وكبحه عن التمادي. ومع أن التراشق بين القادة الإسرائيليين سبق نتائج التحقيق في إذاعة الجيش، وقبلها تقارير صحافية، بل قبل أن تتشكل أي لجنة تحقيق، فإنه لم يعد السؤال في إسرائيل ما إن حدث إخفاق أو لا، بل من هو المسؤول عنه؟ وما هي العبر الواجب استخلاصها لجهة القيادة السياسية أو العسكرية؟
لدى التدقيق في بعض ما كشف عنه وردود الفعل عليه، يتضح أن الفشل في جوهره يتجاوز قضية الأنفاق أو مسألة استمرار إطلاق الصواريخ، بل يمكن التقدير أن المفهوم الأساسي لخلاصة التحقيق يتمحور حول العناوين الآتية: هل كان منشأ الفشل استخبارياً، أم استخبارياً وعملانياً، أم هو بالأساس فشل للقيادة السياسية في إدارة الحرب والإشراف على الإعداد لها... أم أنه مركب من كل هذه الأبعاد؟
لم يعد السؤال في إسرائيل عن حدوث الإخفاق، بل المسؤول عنه

يتضح مما ورد في التحقيق أن الفشل الاستخباري كان مدوياً، خصوصاً عندما يقرّ تحقيق الجيش بأنه «كان هناك إدراك للخطر» الذي تشكله الأنفاق، ولكن «قوة الخطر لم تكن مدركة»، الأمر الذي يعني أن الاستخبارات العسكرية لم تكن على دراية كافية بحجم الأنفاق ومدى خطورتها، والدور الذي يمكن أن تؤديه خلال أي مواجهة. كذلك كان من الطبيعي أن يستدرج الإقرار بالقصور الاستخباري إخفاقاً عملانياً، لأن أي خطة عسكرية يفترض أن تستند بالضرورة إلى تقديرات ومعلومات تحاكي طبيعة الخطر وحجمه، وهو ما لم يكن متوافراً، وفق التقرير.
على هذه الخلفية، يصير مفهوماً ما ورد في خلاصة التحقيق، أنه «عشية الحرب، كانت الأنفاق الهجومية بالنسبة إلى معظم قادة القوات المشاركة نوعاً من المجهول»، ونتيجة ذلك، «لم تمر الألوية (العسكرية) بأي نوع من الإعداد لمعالجة الأنفاق خلال الهجوم، وبالتأكيد ليس بالحجم الذي ظهر أثناء الحرب».
الإخفاقات الإسرائيلية لم تقتصر على الدور الهجومي للأنفاق، بل هي، كما أقر التحقيق، وفرت مظلة أمان لـ«منظومات القيادة والسيطرة» لفصائل المقاومة، وللمنظومة الصاروخية التي حافظت على استهداف العمق الإسرائيلي حتى اليوم الأخير من الحرب. وفي ضوء هذه المعطيات، ترى القيادة الإسرائيلية أن أسباب إخفاقاتها باتت جلية، والصلة بينها وبين العيوب التي وسمت استعدادات الجيش أكثر وضوحاً.
في كل الأحوال، لم يكن الجيش الإسرائيلي ليعرض أسباب الإخفاقات ويعترف بالقصور الاستخباري والعملاني، لولا أنه قرن ذلك بالحديث عن استخلاص الدروس وترجمتها في خطط الجيش عامة، ووسط قيادة الجبهة الجنوبية وسلاح البر خاصة، وهو ما صدر على لسان المتحدث باسم الجيش، الذي قال إنه «حتى الآن، جُسِّدَت معظم الدروس، وموضوع المواجهة مع الأنفاق صار على رأس سلّم الأولويات، وتُستثمر فيه أموالٌ وجهودٌ طائلة، سواء في بناء القوة، أو الخطط العملانية أو العمليات الميدانية... لتوفير أفضل رد على الخطر».
ومع أن التقرير يتمحور حول القضايا التكتيكية، التي يُعنى بها الجيش، فإن القيادة السياسية ليست بمنأى عن مفاعيل الاعتراف بالإخفاقات، لذلك، رأى ديوان رئيس الحكومة خلال الأشهر الماضية مقولة أن إسرائيل لم تستعد مسبقاً لخطر الأنفاق «زعماً بلا أساس»، ووصف الاتهامات التي وجهها عضو المجلس الوزاري المصغر، نفتالي بينيت، بأن خطر الأنفاق لم يعرض بكامله على المجلس الوزاري، بـ«الكذب»، مؤكداً أن المحاضر تثبت عرض خطر الأنفاق بكل شدّته في تسع جلسات مختلفة للمجلس الوزاري.
في المقابل، من الواضح في ضوء مسوّدة التقرير أن الضابطين الأساسيين اللذين ستوجه إليهما معظم الانتقادات بشأن أداء الجيش هما رئيس «هيئة الأركان» بني غانتس، ورئيس «شعبة الاستخبارات العسكرية» اللواء آفي كوخافي. والأوّل لكونه يتحمل المسؤولية الأساسية عن إعداد الجيش، أما الثّاني، فلكونه فشل في فهم تهديد الأنفاق وعدم تقديره نيات حركة «حماس» لجهة قرارها خوض معركة طويلة مع إسرائيل.
على خط موازٍ، يزداد التخوف في «هيئة الأركان» من أن يكون جوهر الانتقادات موجهاً نحو قيادة الجيش، ويخفف منسوبها إلى المستوى السياسي، وهو ما يلقي عبء الفشل على الجيش. لكن، يبدو أن عملية التوظيف السياسي لمضمون التقرير في سياق الخصومات والصراعات الداخلية بدأ مع عضو المجلس الوزاري المصغر، يوفال شطاينتس، الذي ألقى المسؤولية عن إعداد الجيش لمواجهة الأنفاق على عاتق وزير الأمن آنذاك، موشيه يعلون، ورئيس الأركان، بني غانتس.
وأوضح شطاينتس أن أعضاء المجلس الوزاري المصغر لا يفترض أن يراقبوا أعمال الجيش، إنما من يجب أن يقوم بذلك، هو وزير الأمن ورئيس الأركان، كذلك فإن «المجلس الوزاري ليس هو من يدير الحروب».