تحمل السوريات أوزاراً مضاعفة لسنوات الحرب الخمس الماضية باعتبارهن الوعاء الحاضن لكل هموم المجتمع ومشكلاته. وبين عديد ممن خُطفن أو قُتلن، وأخريات حملن السلاح للدفاع عن أنفسهن وعائلاتهن، بقي دور الكثير من النساء «سلبياً»، على الرغم من محاولات آلاف السوريات من مواقعهن المدنية، مقاومة العنف الحاصل دون جدوى. ضمن هذه الظروف، تظهر صورة الطالبة الجامعية نور صعب لتعطي بارقة أمل في العتمة القائمة. ابنة السويداء التي فتحت مضافة والدها لتعليم أطفال الحي، بمن فيهم أبناء النازحين والأيتام والفقراء وأطفال الشهداء ــ حوالى 25 طفلاً ــ في محاولة نادرة لإعادة إنتاج مجتمع مصغّر معافى، بعيد عما جرى في السنوات الفائتة. وبين يومٍ لتعلّم اللغة الانكليزية وآخر للرسم ونشاطات التلوين، تخصص نور أياماً أخرى لفعاليات وأنشطة افتقدها السوريون أخيراً، من بينها نشاط تنظيف الحي بساحاته وأزقته.
لم تحاول التواصل مع أي جهات حكومية أو دولية
يرى أهل الحي الشابة الصغيرة تسير أمام «أطفالها» وهم يرتدون قفازاتهم ويضعون الكمّامات على وجوههم، إيذاناً ببدء جمع الأوراق والمهملات في أكياس خاصة لإيداعها في حاويات القمامة. ملامح الانهماك على وجوههم تشي بالكثير من الأمل، فما الذي يجعل أطفالاً بأعمار بين 6 و12 عاماً في كامل سعادتهم وهم يجمعون النفايات؟ نظرات الأهالي وهم يراقبون أبناءهم من الشرفات والنوافذ تحمل بعض الإجابات، إذ وجد الأطفال ضالّتهم في خضم الحرب ومشاهد العنف المرافقة لها، فأخذوا أماكنهم ليقوموا بما أهمله الكبار الغارقون في الدماء والأحقاد. تفخر نور بأنها جمعت أطفالاً من بيئات مختلفة ــ بل ومتناقضة أحياناً من الناحية السياسية ــ ليصبحوا أصدقاء، حيث ترى فيهم «الحامل للمستقبل الأفضل». وتنطلق من شعورها بالشفقة على أطفال هذا الزمن الصعب، لتحاول أن تقوم بما عجزت عنه حكومات ودول. هكذا ببساطة، جمعت طفلاً قادماً من منطقة ساخنة، خسر بيته وغرفته وألعابه ومدرسته، مع ابن شهيد فقد والده وأمانه وسنده وراعيه ــ في المنطقة الساخنة ذاتها ربما ــ ليصبحا صديقين. يحمل أحد أطفال الحي الأكبر سنّاً «راية السلام» مع معلّمته، ويساعد الأطفال الآخرين على القيام بالأنشطة اليومية، وكأنه يعي مسؤوليات أهل المكان تجاه الوافدين إليه، بدل العزلة التي تنشأ أحياناً تجاه من يوصفون بـ«الغرباء»، لمجرد أنهم خسروا قراهم وبيوتهم ونزحوا إلى بقع سورية أكثر أمناً. تأمل نور أن ينعكس نشاطها مع الأطفال على أهاليهم أيضاً، وترى أن علاقات الأطفال القائمة على الود والتعاون والصداقة قد تدفع بأهاليهم إلى التعارف بدافع الفضول، على أثر انسجام الأطفال. تقول نور: «كيف يمكن للطفل أن يتعلم الإحساس بالمسؤولية، إن لم يشارك ألعابه مع طفل مثله، خسر ألعابه وذكرياته وآماله. تخلّي الأطفال عن الأنانية أثرّ بي بشكل خاص، وتمنيت أن يتعلم منهم الكبار».
ورغم أملها أن يتم تعميم مشروعها الصغير على كل المناطق السورية، فهي لم تحاول التواصل مع أي جهات حكومية أو دولية لطلب المساعدة والعمل على توسيع المشروع، بل ارتأت أن تعمل بمجهود فردي خشية حرف المبادرة عن مسارها، فيما لو حصلت تدخلات ليست لمصلحة الأطفال. تكتفي نور بمساعدة صديقتها وجارتها مرح، التي تقوم بتعليم الأطفال طرق الرسم بالشكل الصحيح وتشارك الأطفال حماستهم في تلوين الرسوم على وجوههم بألوان صحية خاصة. تحتاج الفتاة إلى فريق اختصاصي يهتم بتنمية مواهب الأطفال وقدراتهم، إضافة إلى فريق دعم نفسي، وبعض المستلزمات كالدفاتر والأقلام والألوان والقفازات والكمامات، التي تشتريها على نفقتها الخاصة. وتشيد بتفاعل الناس من كل أنحاء العالم مع صفحتها على موقع «الفايسبوك»، وعرضهم المساعدة بتقديم كل ما تحتاج إليه الصغيرة المُبادِرة.
وفيما تمضي وأطفالها باتجاه شجرة التوت القريبة، حاملة قصة لترويها لهم، تقطف والدة الفتاة بعض ثمار الجوز، قبل موعد الغداء، وتقول: «لم تكن نور تحب ملاعبة الأطفال. لا أعرف من أين جاءها هذا الصبر والبال الطويل. لعل سفر إخوتها إلى الخارج، والوحدة التي شعرت بها في غيابهم، جعلاها تبحث عن عمل مفيد تقوم به». تعترف نور، بفقدها لشقيقتها المسافرة سهيلة، مؤكدة أنها لن تترك البلاد أبداً لأن أمامها الكثير لتفعله هُنا.
تختم نور حديثها حول بعدها عن اختصاصها الجامعي في مجال الهندسة، مؤكدة أن غريزة الأنثى لا شأن لها بالاختصاصات التعليمية والثقافية، لتقود رحلة بحث عن دور لها بين النساء السوريات الفاعلات في الحرب، لتغدو برغم صغر سنها من أشدّهنّ تأثيراً.