لم تخالف نتائج الانتخابات التشريعية المغربية، في توجهها العام، ما كان متوقعاً. فقط أدى الاقتراع الى قطبية ثنائية يتنازعها "حزب العدالة والتنمية"، الإسلامي، الذي حلّ أولا بـ125 مقعداً نيابياً، و"حزب الأصالة والمعاصرة"، المقرب من القصر الملكي، الذي حقق تقدماً لافتاً خوّله الفوز بمئة مقعد ومقعدين.لكن هذا الاستحقاق، الذي عُدَّ أول امتحان لتجربة "الملكية الدستورية"، التي تمخضت عنها إصلاحات عام 2011، والتي سعت الى تحصين البلاد من امتدادات "الربيع العربي"، حمل ثلاثة دروس جديرة بالاهتمام، لأن العِبر التي يمكن أن تُستلهم منها تتجاوز حدود التجربة المغربية إلى الفضاء العربي الأوسع:
يحمل نجاح "العدالة والتنمية" درساً للحركات الإسلامية العربية

1- أولى هذه العِبر، وأهمها بلا شك، أن الاقتراع جرى في ظروف مُرضية، ضمن الشروط والمواصفات المتعارفة للتنافس التعددي والديموقراطي. وبالرغم من أن "حزب العدالة والتنمية" تشكّى من بعض المضايقات والتعدّيات التي واجهها عدد من مرشحيه، فإنّ نجاح هذا الامتحان الانتخابي، باعتراف جميع الأفرقاء السياسيين، من شأنه أن يكرّس تجربة "الملكية الدستورية"، مثبتاً بذلك أن التحدي الإصلاحي الذي رفعه الملك المغربي الشاب، في مواجهة رياح "الربيع العربي"، التي بلغت امتداداتها المغرب، من خلال حراك "20 فبراير" الشبابي. وكان تحديا طموحا ومحفوفا بالمخاطر، بلا شك، لكنه كان خيارا صائبا الى أبعد الحدود. تنازل القصر الملكي عن بعض صلاحياته، من أجل إرساء ملكية دستورية قائمة على نظام برلماني يخوّل القوة، أو القوى، السياسية ذات الأغلبية النيابية تأليف الحكومة وممارسة الحكم التنفيذي، تحت مظلة المرجعية الملكية. بذلك استطاع "القصر" أن ينأى بنفسه عن التجاذبات والانقسامات، ليؤدي دور الحٓكٓم، لا الخصم، بين القوى السياسية المختلفة. وتكفي نظرة سريعة إلى الأوضاع المأساوية التي تتخبط فيها الدول التي طاولتها عدوى "الربيع العربي"، واختارت الأنظمة الحاكمة فيها مواجهة الحراك الاحتجاجي بالرصاص الحي، لاستيعاب أهمية هذا الدرس المغربي، الذي يثبت أن الإصلاح هو السبيل الوحيد لتحصين الجبهة الداخلية لأي دولة في هذا الفضاء العربي، ضد مخاطر الانقسام والاقتتال، وبالطبع ضد أي خطط تدخلية أو مطامع أجنبية!
2- خروج "العدالة والتنمية" منتصراً في هذا الاستحقاق التشريعي، بعد خمس سنوات كاملة قضاها في السلطة، من خلال حكومة عبد الاله بنكيران، يحمل درساً ذا دلالة للحركات الإسلامية المعتدلة في العالم العربي. درس مفاده أن تلك الحركات الاسلامية تستطيع أن تتجذر في الفضاء السياسي القُطري الذي تنتمي إليه، لتصبح قوى وطنية فاعلة وذات شعبية، بشرط أن تخلع العباءة الإخوانية، التي لطالما زجت بها في خانة القوى "اللاوطنية"، وفق التعبير الدارج في الساحة السياسية المغربية. هذا الانعتاق من العباءة الاخوانية، لحساب منهاج براغماتي يغلّب المصلحة الوطنية على المعطيات والارتباطات التنظيمية، شهدناه أيضا في تونس، من خلال مراجعات "حركة النهضة"، وانخراطها في مسار التوافق الوطني التونسي. ولعلّ نجاح تجربة حكومة "العدالة والتنمية" المغربية، التي تستعد لدخول ولاية ثانية من الحكم لخمس سنوات مقبلة، يملي على بقية القوى الاسلامية المعتدلة في العالم العربي ضرورة التحلي بصفاء الرؤية وبعد النظر، لتبني مثل هذا الخيار الوطني الجريء. فهو السبيل الوحيد الكفيل لتحصينها من مخاطر الردة الاستبدادية، على الطريقة المصرية!
3- الاستحقاق المغربي حمل أيضا درسا أقل تفاؤلا يكمن في تراجع وانكماش قوى اليسار. تجسد ذلك من خلال النتائج المتواضعة التي حصل عليها حزب "الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية" العتيد، حيث لم ينل سوى 14 مقعدا نيابيا، فيما حصل رديفه اليميني "حزب الاستقلال" على 46 مقعدا. ولا يمكن وضع هذا التراجع اليساري فقط في خانة ترهل الأحزاب العتيدة غير القادرة على تجديد خطابها وتحديث أدواتها النضالية. فالنكسة الأكبر في هذا الاستحقاق النيابي كانت من نصيب "اليسار الديموقراطي"، الذي طرح نفسه كنهج ثالث بين اليمين واليسار التقليديين، وبين الإسلاميين و"حزب القصر"، لكن هذا الحراك، الذي تزعمته نبيلة منيب، بالرغم من كل الهالة التي حظي بها في وسائل الاعلام وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، فإنه لم يفز سوى بمقعدين نيابيين لا غير! مما يقدّم درسا قاسيا آخر لقوى اليسار، في المغرب وخارجه. درس مفاده بأن النهج التوفيقي القائم على التنكر لقيم اليسار ومرجعياته الاخلاقية، بحجة البراغماتية والعصرنة، يؤدي دوما إلى هزائم مدوية لهذا اليسار الذي يصنف نفسه ديموقراطياً: لبنان والجزائر، نموذجا!