قبل 20 عاماً، أغارت طائرات العدوّ الصهيوني على خيمة تابعة لقوات اليونيفيل الدولية في بلدة قانا (جنوب لبنان)... تلك الخيمة التي احتمى في ظلها أطفال ونساء هرباً من عدوان إسرائيل الغاشم المسمى وقتها «عناقيد الغضب»، فقضى جلّهم جراء قصف وحشي. تسارعت الصور التلفزيونية، التي عجز بعض مصّوريها عن إكمال مهمتهم. كان المشهد الدموي مرعباً: أشلاء وجثث متفحمة لأطفال، من بينهم رضّع فصلت رؤوسهم عن أجسادهم. المجزرة المروّعة وقّعها شمعون بيريز، وخلّفت عشرات الضحايا في إبادة جماعية. وبعد وفاة مهندس مجرزة قانا، خرجت السعودية وتحالفها العربي العريض لتكرر المشهد أول من أمس في صنعاء، مع سلسلة غارات على قاعة مخصصة للعزاء بوالد وزير الداخلية جلال الرويشان، فذهب ضحيتها أكثر من 82 شهيداً و500 جريح. انهمرت الصور الآتية من العاصمة اليمنية، بكل وحشيتها وأساها، كأنها نسخة عن مجرزة قانا، وجزء آخر منها يشبه مذبحة إسعاف «المنصوري» (1996)، إذ تطابقت صور الرجل اليمني الذي حمل جسد ولده الطرّي المدمّى مع اللبناني عباس جحا الذي حمل ابنته الصغيرة المتفحمة. أعادتنا مجرزة صنعاء عشرين عاماً إلى الوراء، هذه الصور التي طبعت في أذهان اللبنانيين والعرب، ها هي اليوم تحمل توقيعاً عربياً ــ عربياً.
راحت «العربية» تقدّم العزاء لأسر الضحايا باسم «التحالف»!
منذ اللحظات الأولى لهذه المذبحة، وخروج الصور من الوكالات الأجنبية، وانعكاس ذلك سخطاً وتنديداً على وسائل التواصل الاجتماعي، بدأ الإعلام الخليجي ومعه الغربي الناطق بالعربية، بتجهيل الفاعل، ووسيلة القتل، وتبرئة ما يسمى «التحالف العربي». وعلى هيئة المزهوّ بهذه المجزرة، عنونت قناة «العربية» بداية «مقتل العشرات من قادة الانقلابيين بانفجار في صنعاء». لم تتوانَ المحطة السعودية عن ترداد أن ما حصل كان نتيجة «انفجار» (مجهول الهوية والجهة الفاعلة). أكثر من ذلك، راحت المحطة السعودية تروّج أن المذبحة حصلت «نتيجة تصفية حسابات داخلية بين المتحالفين (الحوثيين والرئيس المخلوع علي عبد الله صالح) على إثر المجلس السياسي الجديد». وفي خطوة سوريالية، راحت تقدّم العزاء باسم «التحالف العربي» لأسر الضحايا، و«تأسف» لهذه الحادثة «المؤلمة»، مع إعادة تكرار عدم مسؤولية التحالف عن هذه المجزرة المروّعة.
لم تختلف تغطية «الجزيرة» عن زميلتها السعودية، هما المشغولتان حالياً بأحداث أهمّ من الحدث اليمني (حلب والانتخابات البرلمانية المغربية). كررت القناة القطرية بنسختها الإنكليزية أن ما حصل كان نتيجة «تفجيرين» اثنين خلّفا عشرات الأشخاص في عزاء في صنعاء. وفي الساعات الأولى لمذبحة صنعاء، كانت «الجزيرة» تنفي قيام «التحالف العربي»، بـ «عمليات جوية في مكان الغارة».
تجهيل الفاعل، ودسّ مصطلحات للتخفيف من وطأة وهول ما حصل في صنعاء، كانا لعبة الميديا الغربية أيضاً، إلى جانب الترويج أنّ الولايات المتحدة الأميركية لا دخل لها بما اقترفته السعودية من خلال تكرار مصطلح «مراجعة فورية» لعلاقة أميركا بالسعودية. هكذا، نشرت «فرانس 24» خبر المجزرة، بالإشارة إلى حصيلة القصف، مع استخدام لفعل «اتهم»، لوضع مسافة بين الجاني وتبرئته. كذلك، عمدت القناة الفرنسية الناطقة بالعربية إلى تسييس الخبر بالقول إنّ «وزارة الصحة تابعة للمتمردين الحوثيين المسيطرين على صنعاء». جملة قد تكون كافية لتبرير ما اقترفته طائرات التحالف! لعلها مقاربة إعلامية لاقت صداها محلياً، مع قناة mtv التي استنسخت التعاطي الغربي مع مجزرة اليمن، ووضعت مسافة بين «التحالف العربي» والجناة، واصفةً الحوثيين أيضاً بـ «الانقلابيين».
في هذه المشهدية الإعلامية، لعل الأكثر دلالة على استغباء الرأي العام ومحاولة إلهائه عمّا حصل، هو ما بثت «الجزيرة» من تقرير (إعداد عبد الرحمن مطر)، يتناول نية اليمنيين القاطنين في صنعاء القيام بتظاهرات تنديداً بسياسات «التجويع والغلاء» التي تمارسها عليهم قوات «صالح والحوثيين». القناة القطرية خائفة على أمعاء اليمنيين وصحتهم، فيما لم تتوانَ عن تغطية الجناة الذين أحالوا أجسادهم جثثاً متفحمة!