في مثل هذا اليوم قبل ١٦ عاماً، اغتيل الطفل الشهيد محمد الدرة بين يدي والده في ثاني أيام انتفاضة الأقصى. خبأ الشهيد وجهه في يديه ونام نومته الأبدية. تحولت صورة الدرة إلى أيقونة لمظلومية الشعب الفلسطيني. حينذاك، كان «جزّار قانا» شمعون بيريز شريكاً في حكومة أرئيل شارون «الائتلافية»، وكان شريكاً في قرارات شارون خلال انتفاضة الأقصى.لكنّ تاريخ بيريز الدموي قديم قِدَم مجازر الكيان الصهيوني، وتاريخه القريب أشد دموية ابتداء بقمع الفتيان في الانتفاضة الأولى، وقتله المدنيين في مجزرة قانا. كل هذا التاريخ نسيه رئيس السلطة الفلسطينية المؤقتة، محمود عباس، وقرر المشاركة في جنازة «أبي القنبلة الذرية الإسرائيلية».
عباس لم يكن مرحباً به، وكان واضحا أنه ضيف غير مرغوب فيه. فبعد عدم توجيه عائلة بيريز أو حكومة العدو، دعوة إليه للمشاركة في الجنازة، قدّم «أبو مازن» بنفسه طلباً إلى وزارة خارجية العدو ومكتب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، عبر مسؤول الضفة العسكري، بولي مردخاي، للسماح له بالمشاركة في وداع «صديقه». ووفق الإعلام العبري، لم يوافق نتنياهو مباشرة وقرر دراسة الطلب قبل إعلان موافقته.
أنقذت سارة
زوجها نتنياهو من انكفائه
عن الحديث مع عباس

ذهب عباس إلى القدس المحتلة، الممنوع عليه زيارتها إلا بتنسيق مسبق، لتقديم واجب العزاء بآخر «ديناصورات» إسرائيل. رافقته وجوه «التنسيق الأمني» مع العدو: «كبير المفاوضين» صائب عريقات، رئيس جهاز «المخابرات العامة» ماجد فرج (الذي كان من المفترض أن يكون مع عباس لكنه ادعى وقوع حادث مرور وأصيب برضوض فلم يشارك في الجنازة)، ورئيس «الهيئة العامة للشؤون المدنية»، حسين الشيخ، ورئيس «اللجنة الفلسطينية للتواصل مع المجتمع الإسرائيلي»، محمد المدني.
مشاركة عباس في جنازة بيريز أمر طبيعي، ولو لم يكن حاضراً ضمن المعزين لوجب علينا الاستغراب. فـ«أبو مازن»، يكنّ مودة حقيقية لبيريز، والاثنان عملا معاً لسنوات لإنضاج «طبخة أوسلو». عباس واضح في خياراته هو مع «السلام»، ولو أخذ كيان العدو كل أراضي الضفة المحتلة وأبقى له غرفة نوم وملحقاتها، فإن عباس سيخرج ويقول إنه مصرٌّ على السلام. «أبو مازن» وأجهزته الأمنية يقدمان الطاعة يومياً لإسرائيل، ويتولى مع زبانيته مسؤولية حماية الإسرائيليين والتبليغ عمن يشتبه فيهم بتنفيذ عمليات فدائية ضد العدو. تصرفات عباس هذه طبيعية جداً، وخاصة أنه ليس هناك من يحاسبه، ولا من يقف في وجهه أو من يخرج ليقول لا. نجح رئيس السلطة في إغراق أغلب سكان الضفة بالديون (قروض بيوت وسيارات وقروض شخصية للشباب)، وفي إسكات بعض العائلات (وظائف، سمسرات، ومحسوبيات)، وفي نزع غالبية سلاح المقاومة (السلاح المنتشر في الضفة يوالي عباس بالمطلق)، كما نجح في جعل همّ سكانها تأمين قوت يومهم فحسب.
على مدى السنوات الماضية، ضرب عباس وسياسته المجتمع الفلسطيني. المنتفضون ومنفذو العمليات الفدائية اليوم هم الصغار في السن الذين كبروا على قصص سمعوها عن الانتفاضة الثانية، هؤلاء لم تغرقهم الحياة بهمها وصعوباتها بعد، هؤلاء هم المعترضون الوحيدون على سياسته، ونحن لا نفعل شيئا سوى التصفيق لهم.
يوم أمس، شارك عباس في جنازة بيريز. أبدى حميمية تجاه سارة نتنياهو. قال لها وهو ينظر إلى زوجها بعتب: «مضى وقت طويل». كررها مرتين. بدا الرجل كحبيب يعاتب معشوقه على طول فراق. وقف عباس طويلاً أمام نتنياهو كأنه ينتظره ليقول شيئاً، ولكن «بيبي» اكتفى باللياقات شاكراً حضوره. سارة نتنياهو أنقذت زوجها وسحبت «أبو مازن» إليها، قبل أن يقفز محمد المدني (الذي سحب وزير الأمن أفيغدور ليبرمان تصريح الـVip منه)، قائلاً: «شالوم».
وقاحة الوفد الفلسطيني لم تقف عند هذا الحد، فعباس ورجاله بقوا متسمرين مكانهم إلى أن طلب منهم المنظمون السير والمضي قدماً. خلال الجنازة بكى عباس على «جزّار قانا»، أيجب علينا أن نستغرب ذلك؟ بالتأكيد لا، هذا هو الذي يفاخر بأنه لم يطلق النار يوماً على إسرائيل حتى خلال الثورة الفلسطينية.
في المقابل، اكتفت فصائل المقاومة بإصدار بيانات الإدانة، لكن في بعض الحالات الكلمات لا تكفي. وفي بعض الحالات يجب فعل يجر الى رد فعل. كان بإمكان الفصائل إطلاق مسيرات على الطرق التي من المحتمل أن يسلكها عباس، وكان بإمكانها قطع الطرق بالقوة والاصطدام بالقوى الأمنية الفلسطينية حتى لو تطلب ذلك سقوط شهداء، وليكن دم هؤلاء في عنق عباس. كان بإمكانها إطلاق صاروخين من غزة ضمن المعادلة المعروفة بين المقاومة والاحتلال، تجاه المستوطنات، ولترد إسرائيل ضمن المعادلة المرسومة أيضا، ولنحرج عباس وهو في الجنازة.
قد يقال إن هذا الكلام عاطفي، وغير منطقي. في مكان ما هذا صحيح، ولكن حان الوقت لتتحرك الفصائل ضد «أبو مازن»، لأن «سلميته» تقتل الفلسطينيين في الداخل وتضر بنا في الشتات. إذا لم يتحرك أحد اليوم، فهو لن يتحرك اذا قرر المجتمع الدولي الإتيان بالقيادي الفتحاوي المفصول محمد دحلان رئيساً للسلطة. أما سياسة تقطيع الوقت التي تعتمدها الفصائل ومساكنتها تصرفات عباس إلى حين استلام الله أمانته، فلن تجدي نفعاً.