القاهرة | عادت حوادث تهجير الأقباط في مصر من قراهم إثر نزاعات طائفية لتتكرر بعدما كانت تحدث بين حين وآخر، ثم تنتهي بجلسات صلح عرفية يشارك فيها ممثلون عن الكنيسة والأمن وكبار القرية وأحد الشيوخ. عادة يكون الأقباط في تلك النزاعات هم الطرف الأضعف، إذ يجبرون على ترك منازلهم تحت سمع وبصر الحكومة، فيما يتفاوت رد فعل الكنيسة حيال تلك الحوادث، فتلتزم الصمت أحياناً، وتصعّد في أحيان ثانية.
آخر تلك الحوادث وقع مطلع الأسبوع الجاري، بعدما قضت جلسة صلح عرفية بتهجير خمس عائلات من بيوتها في قرية كفر درويش، في بني سويف في صعيد مصر، وذلك لاتهام أهالي القرية لشاب ينتمي إلى أحد هذه الأسر ويقيم في الأردن، بنشر رسوم مسيئة للنبي محمد الأسبوع الماضي، على صفحته الشخصية في «فايسبوك»، ما أدى إلى مهاجمة هذه الأسر ومحاولة الاعتداء على بعضها، ثم انتشرت قوات الأمن في المنطقة وفرضت حظر التجول مؤقتا.
برغم ذلك، لم تتغير طريقة الدولة في احتواء الأزمة، هذه المرة كان الخيار هو جلسات الصلح العرفية التي تغضب الأقباط، وخاصة مع تغير النظام السياسي ووصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الحكم، وهو الذي حصل على دعم كبير من المسيحيين، إذ كانت الكنيسة عنصراً فعالاً في تحالف «30 يونيو» الذي أطاح الإسلاميين من سدة الحكم.
يقول الناشط القبطي كمال زاخر، إن «تكرار حوادث الاعتداء على الأقباط منذ عزل حكم الإخوان (المسلمين) هو ثمن يدفعونه نتيجة لتأييدهم تحالف السيسي، ولكن الأجهزة المحلية والشرطة يتواطأون ضد الأقباط في مثل هذه الحوادث، ولا يؤدون واجبهم في التصدي للعصابات التي تفرض على بعض العائلات هجر منازلها». وأضاف زاخر: «الأمر يحتاج تدخلاً مباشراً من رئيس الجمهورية الذي يبدو أن رئيس حكومته أضعف من أن يتدخل لحل المشكلة»، منتقدا مشاركة تلك الأجهزة في «جلسات الإذعان (يقصد الصلح العرفي) التي يفرض فيها المتعصبون شروطهم على الأقباط».
وشهدت مرحلة ما بعد فض اعتصام رابعة العدوية أكبر موجة عنف تجاه الأقباط في مصر وكنائسهم، إذ رصد تقرير «المفوضية المصرية للحقوق والحريات» تعرض 18 مواطنا قبطيا للقتل بسبب هويتهم الدينية، في المدة الواقعة ما بين 30 حزيران 2013 حتى أيلول 2014، إضافة إلى حرق وتخريب ما لا يقل عن 85 كنيسة أغلبها في صعيد مصر، وغالبية تلك الحوادث وقعت في يومي 14 و15 آب التاليين لفض الاعتصام.
وبرغم وعود السيسي، الذي كان من أوائل الرؤساء المصريين الذين يزورون البابا تواضورس الثاني في الكنيسة لمرتين، بأن الدولة ستتكفل بإصلاح كل دور العبادة التي جرى تخريبها خلال تلك المدة، فإن التقرير يؤكد أن ما جرى بدء العمل على إصلاحه أقل من 10 منشآت.
وللتدقيق، فإن النزاعات الطائفية التي تنتهي برحيل الأقباط عن منازلهم تحديداً ارتفعت بعد «ثورة 25 يناير»، وأبرزها الحادث الذي وقع في قرية العامرية على أطراف مدينة الإسكندرية نهاية عام 2011، وانتهى بتهجير ثماني عائلات قبطية، بعد انتشار فيديو يوضح علاقة بين سيدة مسلمة ورجل مسيحي من أهالي القرية، وقعت بسببه أعمال عنف، وانتهت بجلسة صلح عرفية تدخلت فيها قيادات المحافظة المحلية وكبار شيوخ السلفية.

منذ «25 يناير» تزايد الاعتداء على الأقباط وكذلك في «30 يونيو»

الباحث في مركز «الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية»، يسري العزباوي، يشرح أن الدولة تلجأ إلى جلسات الصلح العرفية في النزاعات الطائفية كي تنهي الأزمة بين الطرفين دون تطبيق القانون، قائلا: «هذا يزيد الأمر توتراً وخاصة بشان معالجة الكنيسة غير الصحيحة لبعض الأمور، إذ يتوقف رد فعلها من تلك الحوادث وفق علاقاتها بالنظام السياسي الحاكم، فإن كانت على وفاق معه تعمل على إنهاء الأزمة سريعاً ووأد الفتنة، وإن كانت علاقتها متوترة قد يجري افتعال أحداث مشابهة للصدام مع النظام».
ولا يبدو أن ثمة أفقا لحل ناجز لهذه الظاهرة، إذ إنها صارت أزمة مركّبة تتعلق بميراث متراكم في اللجوء إلى الدين والاحتماء به كوسيلة فعالة في الحشد ضد الخصوم، حتى لو كان أصل النزاع اجتماعياً أو اقتصادياً، ويترافق مع ذلك لجوء الدولة ــ على اختلاف أنظمتها ــ إلى الحل الأسهل الذي يعالج ظاهر المشكلة ويترك جذورها نابتة.
يُضاف إلى كل ما سبق، أنه منذ موت السياسة وتصاعد خطاب الهوية في مصر ــ عقب ما جرى في «30 يوليو» وعقب فض رابعة ــ ولد نوع من حالة انسداد الأفق لحلول عقلانية كانت يمكن أن تمثل منطلقاً للقضاء على هذه الجلسات التي تضيع مفهوم دولة القانون، وتعلي منطق القبلية والقوة.