باتت الحكومة في مصر تضِيق حتى بالمعارضة الضعيفة، رغم أنها تحرّك نواب البرلمان مثل عرائس الماريونت، فترضى عمّن تشاء وتلفظ من لا تشاء. يجلس رئيس المجلس علي عبد العال، كأنه رقيب أمني على النواب، لا رئيسهم المنتخب بأغلبية «ائتلاف دعم مصر» المنتمي إليه. فأستاذ القانون الدستوري تخلى عمّا درسه للطلاب بضرورة التزام الدستور، وهو يواصل ضرب عرض الحائط بأخلاقيات منصبه، مستغلاً صلاحياته ووقف البث التلفزيوني للجلسات، ما شكل رقيباً قوياً في الأيام الأولى من انعقاد المجلس قبل أن يوقفها بقرار مفاجئ وسريع.والآن، لا يبدو عبد العال، المعيّن في البرلمان بقرار من رئيس الجمهورية وفقاً للدستور، قادراً على الانسلاخ عن الحكومة. الرجل ينفذ تعليمات تأتيه لتسيير أمور الدولة لا أخذ الدور التشريعي والرقابي الحقيقي الذي نص عليه القانون، وهو ما يفسر إمراره الموافقة على قانون «القيمة المضافة»، رغم رفض المعارضة له من طريق التصويت برفع اليد بديلاً من التصويت الإلكتروني، في مخالفة واضحة للائحة المجلس. من ثمّ، مرّ القانون في ساعات معدودة دون النظر في عجز المواطنين عن تحمّل زيادة جديدة في الأسعار.
آخر ما وصلت إليه الحال، تعامل رئيس المجلس مع النواب المعترضين (25 نائباً يرفعون شعارات 25 يناير و30 يونيو) بإحالتهم على «لجنة القيم»، بعدما اعترضوا على طريقة إدارته للجلسة. وجاءت هذه الإحالة في محاولة لترهيب المعترضين على سلسلة القوانين التي يرغب عبد العال في تمريرها كما تريدها الحكومة. ويواصل الرجل تعامله مع النواب كأنهم تلامذة في مدرسته الخاصة وليسوا نواباً يفترض أنهم منتخبون عبر الشعب، فيبلغهم التعليمات الأمنية والاعتراضات الحكومية، ثم يصير دورهم «ديكوريّاً» قبل إمرار القوانين.
أحيل 25 نائباً يعارضون قرارات عبد العال على «لجنة القيم»

السبب في ذلك أن الأجهزة الأمنية، التي دعمت وصول غالبية هؤلاء تحت اسم «دعم مصر»، لن تقبل تكرار ما حدث في رفض قانون الخدمة المدنية خلال الأيام الأولى من انعقاد المجلس قبل إمراره بتعديلات طفيفة أخيراً، لأن الرفض غير مقبول في معجم هذه الأجهزة. لكن، يمكن تجميل وجه النواب أمام أبناء دوائرهم من طريق السجالات المفتعلة إعلامياً مع الحكومة، في وقت يتجاهلون فيه الحديث عن صفقة الطائرات الفارهة للرئاسة، وهي الصفقة التي اتفقت عليها القوات المسلحة ونشرت الصحافة الفرنسية أخبارها دون صدور توضيح مصري بشأنها حتى الآن، أو ظهور إحساس في البرلمان بالحاجة إلى مساءلة الدولة.
مثالٌ آخر على حالة «عرائس الماريونت»، ما حدث خلال مناقشة النسخة الأولى من مسوّدة قانون الكنائس، وهي التي طلبت الحكومة من النواب الاعتراض على بعض بنودها وعطلت إمرارها قبل يومين، لكنها مرّت يوم أمس بتصويت الغالبية، بعد ضغوط مارستها الكنيسة على الحكومة، التي غيرت وجهة نظرها وطلبت من البرلمان إمرار القانون، لينتهي بالموافقة، برغم اعتراض بعض النواب، ثم أخرج رئيس المجلس علم مصر من أسفل مقعده ورفعه تعبيراً عن الوحدة الوطنية!
تلويح عبد العال هو أقل المشاهد تراجيدية مقارنة بالتهديدات التي يطلقها لكل من يحاول المعارضة أو الاعتراض على إمرار زيادات الرواتب للجيش وللشرطة وللقضاة الذين يصفهم بـ«أصحاب المقام الرفيع»، لكنه في الوقت نفسه يغلّظ العقوبات مع النواب من خارج الائتلاف المنتمي إليه. أما في ملف فساد القمح (إقالة وزير التموين)، فإنه أعلن سقوط جميع الأدوات الرقابية للمجلس باستقالة الوزير لترسخ آلية غلق الملفات باستقالة المسؤول الأبرز، وهو أمر يخالف الواقع، خاصة أن المسؤولية مشتركة بين الوزير ومساعديه، بالإضافة إلى مسؤولين في قطاعات أخرى.
الأسلوب نفسه تعامل به عبد العال في إدارة خلافه مع النائب محمد أنور السادات (رئيس لجنة حقوق الإنسان)، الذي أعلن في بداية توليه المسؤولية بعد انتخابه من الأعضاء أنه لا توجد تدخلات في اختيارات رؤساء اللجان من الأجهزة الأمنية، لكن السادات واجه ضغوطاً جعلته يقدم استقالته من رئاسة اللجنة أمس، بسبب «عدم تعاون الأمانة العامة للمجلس والحكومة» مع اللجنة، التي كان منوطاً بها أن تمرر قانوناً جديداً لـ«المجلس القومي لحقوق الإنسان»، ستتغير على أساسه تشكيلة المجلس الحالي، خاصة أنها كانت معيّنة بصفة مؤقتة منذ عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي قبل ثلاث سنوات.
السادات، الذي واجه اتهامات بعد سفره لحضور مؤتمر عن حقوق الإنسان في سويسرا قبل أسابيع برفقة تسعة نواب آخرين من أعضاء اللجنة، يواجه الآن اتهاماً بطريقة غير مباشرة من رئيس المجلس، فحواه أنه اشتكى على الدولة المصرية لجهات خارجية، وهو اتهام خطير وعد عبد العال بالتحقيق فيه. لكن المؤكد أن التحقيق سيتحول لاتهام منشور في مختلف وسائل الإعلام التي غطّت جلسة الأمس.