يسجّل الميدان للمقاومة في غزة، حتى اليوم الخامس عشر من الحرب الأخيرة، تفوقاً أمنياً قلّ نظيره في حروب سابقة. فبخلاف مسؤول «وحدة تدريب الكوماندوز البحري» (كتائب القسام)، محمد شعبان، الذي اغتيل في ثاني أيام الحرب، لم تسجل المنظومة الأمنية الإسرائيلية قصفها أي أهداف بشرية وازنة طوال تلك المدة، رغم استخدامها آلاف القنابل لتدمير 322 هدفاً حتى اليوم العاشر من الحرب.في محاولة لتعويض الإخفاق، قال الجيش الإسرائيلي إنه قصف أنفاقاً وصواريخ مطمورة، لكن لم يُبدِ حتى العشرين من تموز (بدء العملية البرية) أن القدرة الصاروخية للمقاومة تأثرت، فيما كانت الأجهزة العسكرية لفصائل المقاومة تسجل نقاطاً في الحضور الأمني، أمام فقر استخباري واضح، تبين بتركيز الإسرائيلي على قصف أهداف مدنية، إلى حدّ أنه أعيد قصف ركام مؤسسات حكومية أكثر من مرة.
لو كان هناك من لوم يُسجل على أداء المقاومة في الأيام الأولى، لكان إطلاق اليد لاستخدام أصناف متعددة من السلاح دون حسابات لأثر ذلك في صعيد السياسة وردّ الفعل الإسرائيلي، فضلاً عن طول الحرب التي امتدت أكثر من سابقاتها، بدءاً من 2006 حتى 2012 (51 يوماً).
أما على مستوى الأمن، فبقيت المقاومة صامدة إلى حين بدء الحديث عن «هدن»، علماً بأن العشرات من طائرات الاستطلاع وأدوات التجسس الإلكتروني لم تفارق سماء القطاع للحظة واحدة، في الهدنة أو خلال الاشتباك.
أيام التهدئة كانت فرصة استخبارية مناسبة لـ«بنك أهداف» العدو

يقول متابعون للوضع الأمني في غزة، إن عمليات الاغتيال التي نفذتها إسرائيل بحق قادة ميدانيين في فصائل المقاومة، ليست وليدة بنك أهداف مسبق الإعداد، وإلا حصل ذلك في الأيام الأولى للحرب. لكنها كانت، وفق تقديرهم، نتاج عمليات مخابراتية وميدانية خلال الحرب.
أحد أهم الوجوه المطلوبة هو محمد الضيف، بكل ما يحمل الاسم من رمزية صنعتها هيبة تخفّيه الدائم، خاصة أنه القائد العسكري العام لـ«كتائب القسام». كانت أولى ثمار ذلك الجهد هو الصيد الثمين الذي استعجلت إسرائيل من أجله خرق الساعات الأخيرة من تهدئة مؤقتة استمرت ثمانية أيام. ففي ليلة 19 آب 2014، وصلت إلى العدو معلومة استخبارية أكدت وجود الضيف في أحد المنازل السكنية في حيّ الشيخ رضوان، غرب غزة. خرقت إسرائيل التهدئة بقصف منزل عائلة الدلو بعدما ادعت سقوط ثلاثة صواريخ على «مستوطنات غلاف غزة». استشهدت زوجة الضيف وأحد أطفاله، ثم طفل ثانٍ، وظل الغموض يلف مصير قائد «القسام» لساعات.
لم يكن الضيف، الذي نجا من الاغتيال على ما يبدو، هو مفاجأة العدو الوحيدة أمنياً. السجل الإسرائيلي الأسود كان يحفل بعشرات الأسماء التي تنتظر معلومة استخبارية دقيقة لتغلق معها الحساب. على رأس القائمة، تربع محمد أبو شمالة («القسام»)، الرجل الذي حفظه قادة جهاز «الموساد» الإسرائيلي منذ 1991 عندما طورد بسبب جهوده في ملاحقة العملاء، ثم أعيد ذكره بقوة في أروقة «الشاباك»، وهو الحاضر بقيادته لـ«دائرة الإمداد والتجهيز»، ثم بإشرافه على أكبر عمليات «القسام»، كـ«براكين الغضب» و«محفوظة» و«حردون» و«ترميد»، ثم دوره الرئيسي في أسر الجندي جلعاد شاليط.
تلك القائمة كانت تنتظر أيضاً طرف خيط يُسهم في تخليصها من ثقل رائد العطار («القسام»)، الصيد الذي كان يمكن أن تقبل إسرائيل بعده وقف الحرب. هو «رأس الأفعى» كما يصفه إعلامها، وقائد «لواء رفح» ومسؤول «وحدة الكوماندوز»، وتتهمه إسرائيل أيضاً باحتجاز شاليط وتهريب قدر كبير من السلاح النوعي إلى غزة. أثناء الحرب، قالت صحيفة «يديعوت أحرنوت» إن العطار هو الشخص الوحيد الذي يمكن أن يعرف مصير الضابط الإسرائيلي المختفي هدار غولدن.
في تمام الثانية والنصف فجراً من الحادي والعشرين من الشهر الثامن، كان رئيس جهاز «الشاباك»، يورام كوهين، يكلف نائبه بالحضور داخل غرفة القيادة المتقدمة لعمليات التصفية الخاصة بالجهاز الأمني في تل أبيب. وفق «يديعوت»، حبس لفيف من القادة الحضور أنفاسهم قبل سقوط أول صاروخ من تسعة يزن الواحد منها طنّاً، أطلقت على منزل يعود إلى عائلة كلاب في حيّ تل السلطان في مدينة رفح (جنوب). كان في المنزل كل من العطار وأبو شمالة ومعهم القيادي محمد برهوم، واستشهد أيضاً خمسة مدنيين وأصيب آخرون.
تفيد الصحيفة نفسها بأن العطار وأبو شمالة «كانا هدفاً جرت مراقبته طوال عدة أشهر، ولا بد أن تُستغل الحرب في التخلص منها، لكن الشاباك لم يحصل على أي معلومة يمكن أن تفيد بمكانهما خلال أول 30 يوماً من الحرب»!
كذلك وصلت إسرائيل إلى مسؤولين بمستويات أخرى في «القسام»، وفصائل أخرى، منهم القياديان العسكريان دانيال منصور وصلاح أبو حسنين («سرايا القدس»، الذراع العسكرية لحركة «الجهاد الإسلامي»).
بعد هذه الاغتيالات، التي رافقتها استهدافات لمنازل كوادر رتبة قيادية وبكثافة (للمرة الأولى)، أغلقت إسرائيل رسمياً «ملفات مهمة»، فيما بقي الضيف يؤرقها، خاصة بعدما تأكد أنه حي يرزق. لكن المقاومة فتحت مراجعات مكثفة عن السر الحقيقي وراء لهث إسرائيل عبر وسطاء دوليين لإبرام المزيد من اتفاقات التهدئة خلال الحرب، ليتبين أن الهدنة كانت فرصة ذهبية لتحرك العملاء، خاصة مع تنقل عدد من قياديي المقاومة مستغلين هدوء الميدان.
ومع أن إمكانية استهداف أيٍّ من القادة الميدانيين أمر متوقع بالنسبة إلى لمقاومة، لكن إسرائيل سجلت لنفسها بهذه الاستهدافات إنجازاً كان كافياً لتوقف بعده الحرب، ثم عملت على تضخيمه.