في الآونة الأخيرة، تداخلت أصوات مصرية ودولية عدة بعضها كان مرتعشا وأخرى كانت صارخة. الأخير من تلك الأصوات أعلن الخراب والإفلاس الذي يهدد البلاد. جاء هذا التداخل بين الأصوات من جراء معلومات قليلة خرجت، ومشاعر كثيرة تسربت للنفس البشرية، ومخاوف من أزمات عدة عاشها المواطن المصري في مقدمتها انفجار سعر الدولار. لكن المؤكد أن أهم وأخطر تقرير للبنك المركزي المصري في 2016، كان قد وصل إلى مجلس النواب، كشف عن الحالة الاقتصادية للبلاد، لذلك شعر الجميع بالخطر، وزاد الإحساس بالأزمة التي تصل إلى الإفلاس.واكب التقرير بعض التقارير الصادرة من مؤسسات اقتصادية دولية تحذر من مشكلات الاقتصاد المصري، حتى وصل بعضها إلى دق جرس الخطر، وأطلق عليه البعض الخراب الاقتصادي، كما واكب ذلك التقرير تصريح من اللواء أركان حرب (عضو المجلس العسكري المصري) بأن القوات المسلحة تصرف على مصر منذ ثورة 25 يناير، وكان ذلك التصريح صادما لكثيرين حتى ظن البعض أن القوات المسلحة قد صارت دولة القوات المسلحة التي تصرف على مصر، مثلها مثل السعودية والإمارات، وكذلك صندوق النقد الدولي الذي ذهبنا إليه أخيرا بعد ممانعة منذ ثورة 25 يناير 2011، طالبين منه قرضا على ثلاث سنوات.
بالفعل، دخلت الدولة المصرية التفاوض مع الصندوق حول الشروط، التي يتوقع بعض المحللين أنها سوف تودي بقيمة الجنيه المصري أكثر مما خفض على أرض الواقع، كما يتوقع البعض رفع ما تبقى من الدعم عن سلع مثل الماء والكهرباء والبنزين وغيرها. هكذا يعيش المواطن المصري جحيم الغلاء في السنوات الأخيرة، وبالذات بعد ثورة 25 يناير التي حاول البعض أن يحملها مسؤولية الغلاء، رغم أن السياسات الاقتصادية للدولة وأجهزتها اختارت أن تنحاز إلى السياسات التي تبناها أنور السادات ومن بعده محمد مبارك ومحمد مرسي والمجلس العسكري، وأخيرا عبد الفتاح السيسي.
تقرير البنك المركزي المصري، الذي كان صدمة، كشف عن عمق الأزمة الاقتصادية، وقد صدر في وقت صارت فيه المعلومات شبه منعدمة، أو نادرة، خاصة بعد صدور تعليمات بمنع إخراج أي معلومات. هكذا عاد المواطن المصري إلى حاسة الشم، وبدأ يشتم الخطر الداهم في ثنايا المشكلات التي تواجهه، وآخرها زيادة الأسعار بنسب كبيرة على كل السلع تقريبا، وبالذات الكهرباء والغاز والماء والدواء والأكل.
أخيراً وصل الدولار إلى ما يقارب ثلاثة عشر جنيهاً، أي إن الجنيه المصري يساوي 1/13 من الدولار، ما يعني أن صاحب الدخل الشهري الذي يصل إلى 5000 جنيه يساوي تقريباً 500 دولار، وصاحب الحد الأدنى الرسمي 1200 يساوي 115 دولار تقريباً.
كذلك، جاء التقرير كاشفاً عن الدين الخارجي المستحق في آذار 2016، مبينا أن إجمالي الدين العام المحلي 2496.5 مليار جنيه (أي 2.5 تريليون جنيه) منه 90% مستحق على الحكومة، كما كشف عن أن التضخم قد وصل 12%، وأن قيمة العجز في الموازنة العامة للدولة في نهاية 2016 (240 مليار جنيه). وكل هذا يمول عبر طرح البنك المركزي لأذون وسندات خزانة وعن طريق المساعدات والمنح.
ومن المعلوم والموثق أن تقرير البنك المركزي المصري قد استعان بتقارير عدة من الوكالات الأجنبية، منها «فيتش الدولية» و«ستاندرد اند بورد» للتصنيف الائتماني. كما كشف التقرير عن أن إجمالي المساعدات المالية منذ عام 2011 بلغت 29 مليار دولار، مشيرا إلى انخفاض الدخل من السياحة التي بلغت عائداتها في 2014-2015 حوالى 7.4 مليار دولار مقابل 10.9 مليار دولار عن 2007-2008. والإيرادات السياحية بلغت 3.3 مليار دولار من تموز 2015 حتى آذار 2016 بنحو 1.7 مليار دولار، مقارنة بالمدة نفسها من العام السابق، وذلك بنسبة انخفاض 12%.
إذن، مكاشفات كثيرة في هذا التقرير، الذي يضع البنك المركزي في نهايته خطة قصيرة المدة تستهدف استعادة سيولة الجهاز المصرفي والاستقرار النسبي في أسعار الصرف وتوفير احتياجات الدولة وسداد التزاماتها، لكن الخبراء ذوي الثقة والمصداقية يؤكدون أن هذه الحلول القصيرة الأجل لن تساهم في إنقاذ الاقتصاد من أزمته الخانقة، وأنه لا بد من سياسات جديدة تعالج العطب القائم والخلل البنيوي في هيكل الاقتصاد؛ فلا معنى لاستيراد أدوات التجميل بتلك المبالغ الدولارية المرصودة، ولا معنى لمشروعات كبرى لا نستطيع أن نواصل الصرف عليها ما دامت هناك أزمة.
أيضا، لا معنى لتركيز معظم الاستثمار في المعمار ولا أن تظل تلك المصانع، التي تصل إلى ما يقارب الألفين مغلقة ولا إنتاج منها. حانت لحظة المواجهة التي تبدأ بتوفير معلومات عن الأزمة، ثم فتح حوار مجتمعي يديره خبراء اقتصاديون من مدارس متعددة، مستقلون وغير مستقلين، حتى نتبين حجم الأزمة ومسؤولية السلطة والمواطن، ثم يأتي التحشيد الشعبي حول المطالبة بتغيير تلك السياسات التدميرية للذات، مع الإصرار على شفافية المعلومات والدور المقنن لتدخل القوات المسلحة في الحياة المجتمعية، حتى لا نصل إلى «دولة القوات المسلحة الشقيقة» التي تصرف على مصر، وفق تصريح اللواء ممدوح شاهين.
بهذه الطريقة، من الممكن أن نستكمل مسيرة وقف الخراب المستعجل الذي يلاحقنا، وتبين فيه أن السلطة التنفيذية في مصر تحتاج أن تنال شهادة محو الأمية عن جدارة. المشكلة ليست بسيطة، بل تحتاج منا أن نحتشد كي نوقف التدهور الدرامي الذي نعيشه. لكن الاحتشاد يكون عبر تعدد الرؤى وتقديم البدائل وتعدد المذاهب وتقديم النقد للممارسات القائمة... في ظل مطالبة دائمة بأن يكون الرجل المناسب في المكان المناسب، ولن يكون ذلك إلا بعودة السياسة إلى المجتمع، وليس إخراج السياسة من المجتمع، كما يحدث الآن.