يتساءل بعض مؤيدي الرئيس اليمني السابق، علي سالم البيض، الذي لا يزال مقيماً في السعودية: «ما الذي دهى الرجل؟». تساؤل يبدو مبرراً بالنظر إلى المسار السياسي لرئيس جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية، الذي اتبعه منذ عام 1994، وبالنظر إلى السياقات التي حُشر فيها مشروع «الاستقلال» عن الجمهورية العربية اليمنية، حتى بات البيض يقف في صفّ العدوان، لا بل يبدو أشبه بجندي في الحرب السعودية على بلاده.
في القراءة التاريخية، يتوقف مصدر جنوبي عند ثلاث محطات رئيسية يمثل إحداها العدوان السعودي على اليمن. في عام 1996 أي بعد نحو سنتين من انتهاء الحرب الأهلية اليمنية، بدأ علي سالم البيض الذي كان يتزعّم حينها حركة تقرير المصير «حتم» تجنيد أتباعه لقتال الجيش اليمني، وسانده في ذلك كل من عبد الرحمن الجفري زعيم ما كانت تسمى المقاومة الوطنية الجنوبية «موج»، وشخصية قيادية من محافظة حضرموت معروفة باسم صالح بن الشيخ، أبو بكر أو أبو علي.
هؤلاء الثلاثة ألقوا بكل ثقلهم في مدينة الضالع، مهد الحراك الجنوبي ومنبعه الرئيس. هكذا استُدعي الآلاف من الضباط الذين جرى تسريحهم من القوات المسلحة عقب الحرب ومعهم المئات من اليمنيين الجنوبيين لخوض معركة لم تُحدّد أهدافها ولا استراتيجياتها ولا مآلاتها المطلوبة. كل ما في الأمر عمليات متنقلة ضد جيش الوحدة، ممولةً بسخاء من السعودية التي كانت تحاول حينها «زكزكة» الرئيس علي عبد الله صالح وانتزاع تنازلات منه على الحدود، وفق ما يؤكد المصدر الجنوبي.
ثلاث سنوات مرّت، فيما تدفع الضالع وردفان وغيرهما من مناطق الجنوب بأبنائها نحو القتال. قتالٌ سرعان ما أفضى إلى «اللاشيء» ميدانياً وسياسياً، بعدما حزم الجفري وأتباعه حقائبهم وتوجهوا إلى السعودية، وبعد انقطاع ديناميات البيض والشخصيات المقربة منه. على هذا النحو خفت وهج «الحراك الجنوبي» في وقتٍ استقرّ فيه البيض في سلطنة عمان مبتعداً عن العمل السياسي.
طيلة السنوات اللاحقة، لم ينقطع الدعم السعودي عن المئات من الشخصيات الجنوبية المقيمة في الخارج، حتى ان أعداداً كبيرة منها مُنحت جنسيات خليجية وجرى تجنيدها في القوات المسلحة التابعة لدول الخليج في خطةٍ استهدفت بوضوح شراء ذمم هؤلاء وولاءاتهم والاستفادة منهم في عمليات الارتزاق.
في عام 2007، عاد الحراك الجنوبي إلى الحياة من جديد. عودةٌ وجد فيها البيض الفرصة الأنسب لإطلاق مشروعه مرة أخرى، إلا أنه لم يجد هذه المرة إلا اليد الإيرانية ممدودة إليه. استساغ نائب الرئيس اليمني الأسبق الأمر، وبادر إلى تكثيف اتصالاته مع إيران عن طريق شخصيات وسيطة. هذه الاتصالات أدت إلى نوع من الإتفاق السياسي الذي توجه بموجبه الرجل إلى فيينا متخلياً عن جواز السفر العماني، قبل أن يستقر في بيروت مفتتحاً مكتباً سياسياً يديره إلى جانب «أبو علي» السالف الذكر كل من يحيى غالب الشعبي وأحمد الربيزي، بحسب رواية المصدر الجنوبي.

يقاتل أنصار البيض في عدن والضالع بعدما أمدتهم السعودية بالسلاح والعتاد

الرواية تشير إلى أن افتتاح المكتب أعقبه بنحو 6 أشهر إفتتاح قناة ناطقة بلسان الحراك الجنوبي وتحديداً بلسان الفصيل التابع للبيض. هذه القناة دأبت منذ أيامها الأولى على الترويج لسلمية الحراك وعدم لجوئه في تحقيق أهدافه إلى الخيارات العسكرية. غير أن تبدل الحسابات السياسية أفرز مفاجآت لم تكن في الحسبان. ففي شهر كانون الاول من عام 2013، جرى إطلاق «حلف قبائل حضرموت» الذي تربط وجوهَه علاقاتٌ وثيقة بالسعودية، ما وصف حينها بأنه «هبة شعبية» على خلفية مقتل أحد كبار رجالات الحلف المدعو سعد بن حبريش العليي.
تطوّر بدا واضحاً أنه لا يتسق سواء في خلفياته أو أهدافه مع ما يطمح إليه الحراك الجنوبي. وعلى الرغم من ذلك، وتلك هي المحطة التاريخية الثانية التي يتوقف عندها المصدر الجنوبي، أوعز البيض إلى ذراعه الإعلامية بامتطاء موجة «الهبة» والسير معها حيثما تسير. سارت هبّة «حلف القبائل» في اتجاه مهاجمة قوات الجيش والأمن وإسقاط المناطق ونصب نقاط التفتيش، وعلى المنوال نفسه لم يتردد علي سالم البيض في المضي قدماً.
في 18 كانون الثاني 2014 صدر عن مكتب البيض «البيان رقم واحد للمقاومة الجنوبية»، وبعده بيومين صدر «البيان رقم اثنين». بيانان أعلنا تنفيذ عمليات منظمة ضد الجيش اليمني في الضالع. الضالع مرة أخرى إذاً، يقول المصدر الجنوبي، لافتاً إلى الدفع بعشرات الشبان نحو أتون «مواجهات عبثية لم تطمح إلا إلى مزيد من الضعف والإنحدار». وبتحكيم قبلي شمل مليار ريال و200 بندقية و12 سيارة «صالون» و8 «شاصات»، لُفلفت هبة حلف القبائل وارتدّ الحراك الجنوبي على أعقابه متناسياَ «المقاومة ورجالاتها».
عند هذا المفصل تحديداَ، بدأ التوتر يشوب العلاقة بين علي سالم البيض وإيران. توترٌ اتخذ منحىً تصاعدياً مع صعود حركة «أنصار الله» في الشمال وإحرازها مزيداً من التقدم على الأرض. كانت الرؤية الإيرانية تفترض أن توجيه ضربات قاصمة لمراكز القوى التقليدية في اليمن يوطئ الطريق لاتحاد القوى الوطنية في كل من الشمال والجنوب وبنائها دولة جديدة تحت سقف الوحدة، وبذلك يكون الحراك الجنوبي قد تخلص من الشخصيات والمكونات التي «كان لها دور في هضم الجنوب وإفقاره وإقصائه ما بعد توقيع اتفاقية الوحدة»، وفي الوقت نفسه يدخل الشطران الشمالي والجنوبي مرحلة إعادة بناء شاملة بأقل التكاليف السياسية والإجتماعية الممكنة.
رؤيةٌ لم ترُق جناح علي سالم البيض في الحراك الجنوبي، ربما لأن الرجل كان موعوداً بمشاريع برّاقة يتقن الخليجيون تزويقها، ما يعزز الإستنتاج المتقدم بحسب المصدر الجنوبي أن آخر زيارة سجلت لمكتب البيض في بيروت قبيل أسبوعين فقط من مغادرة نائب الرئيس الأسبق إلى النمسا كانت لعبد الرب النقيب شيخ مشايخ يافع وعبد العزيز المفلحي، وهما أكثر شخصيات جنوبي اليمن قرباً من السعودية.
التقرب من دول الخليج تزامن مع تباعد تدريجي عن إيران. تباعدٌ انتهى إلى إغلاق مكتب البيض في لبنان وترحيل موظفيه (الشعيبي والربيزي) إلى عدن وتسليم القناة الجنوبية في بيروت لصالح بن الشيخ أبو بكر المذكور سالفاً. هذا الأخير عمل على تسويق خطاب وسطي لا يعادي «أنصار الله» ولا يعرض عن مشروع «الاستقلال»، بيد أن تسارع التطورات على الساحة اليمنية كان كفيلاً بإيصال الأمور إلى نقطة اللاعودة.
في 25 آذار الماضي، أعلنت السعودية عدوانها على اليمن. تطورٌ حتّم على الجانب الإيراني التعاطي مع الحراك الجنوبي وفقاً لمقتضياته. غير أن من تبقى من «فلول» الحراك في بيروت آثر عصافير الشجرة على عصفور اليد، بحسب المثل الشهير. هكذا فرّ أبو بكر إلى السعودية في 29 آذار الفائت حيث شرع في تعبيد طريق المملكة أمام البيض، يقول المصدر الجنوبي، مضيفاً أن عبد العزيز المفلحي الذي يؤثر البعض تسميته «ربيب الإستخبارات السعودية» كان يقوم بالمهمة نفسها في النمسا.
مهمّة أعقبت إعلان البيض تأييده «عاصفة الحزم التي تدك قلاع قوات البغي والطغيان في أوكارها»، بحسب قوله. ذلك الإعلان الذي حمل اعترافاً صريحاً بـ «شرعية» كان الرجل قد ذهب بعيداً سابقاً في مناوءتها وتجريدها من أي صفات قانونية أو شعبية. ثم أثمرت مساعي أبو بكر والمفلحي زيارةً رسمية لعلي سالم البيض إلى السعودية في أوائل شهر أيار الماضي، وكان المفلحي والنقيب وعبد الله عبد الصمد الذي استدعاه البيض من الجنوب بديلاً من مستشارَيه الشعيبي والربيزي في استقبال الرئيس الجنوبي الأسبق في مطار الرياض.
الاستقبال السعودي لإحدى أبرز الشخصيات الجنوبية، وهذه المحطة التاريخية الثالثة، انطوى على مقايضة يلخصها المصدر الجنوبي بما يلي: «جواز سفر دبلوماسي مماثل لما حصل عليه البيض سابقاً في كل من عمان والنمسا، خمسة وعشرون مليون دولار مضمونة من جيوب أمراء آل سعود، ووعد بفدرالية من إقليمين تقوم على أساس تجيير نصف الثروة اليمنية لإعادة إعمار الجنوب وتعويضه عن سنين الحرب واستخدام النصف المتبقي في ميزانية الدولة الإتحادية، على أن يعقب تلك السيرورة بخمس سنوات إستفتاءٌ على الوحدة».
في المقابل، يلتزم البيض بتوجيه أتباعه نحو محاربة الجيش اليمني و«اللجان الشعبية» والحيلولة دون تقدمهم في الجنوب. وذاك ما كان، يتابع المصدر الجنوبي، مؤكداً أن من لا يزالون يقاتلون حتى الآن خصوصاً في عدن والضالع هم من أنصار البيض الذين أمدتهم مقاتلات العدوان بكميات كبيرة من العتاد والأسلحة بينها صواريخ مضادة للدروع وقذائف هاون وقذائف 23 وقاذفات آربي جي وغيرها. وهذا ما يفسر على الأرجح استعصاء هاتين المدينتين على السقوط الكامل بأيدي القوات المشتركة على الرغم من مرور أكثر من ستين يوماً على القتال.
إذ إن ميليشيات الرئيس الفار عبد ربه هادي في عدن وأبين ولحج سرعان ما تقهقرت أمام قوة الجيش و»أنصار الله»، يقول المصدر الجنوبي، الذي يتابع أن العديد من مدن حضرموت لم تشهد قتالاً حقيقياً بفعل وقوف الزعيم الجنوبي حسن باعوم على الحياد وإعلانه أن «لا ناقة لنا في هذه الحرب ولا جمل». أما في شبوة فقد أسهم وقوف العديد من القبائل إلى جانب «أنصار الله»، في تسهيل دخول القوات المشتركة إلى مفرق الصعيد وغيره من المناطق الاستراتيجية.
وحدهما عدن والضالع تبدوان معركتين صعبتين، ولكن لماذا؟ يجيب المصدر الجنوبي بأن البيض مصرّ على تكرار أخطاء الماضي التي لم يستفد منها ولو بدرسٍ واحدٍ. فعلى الرغم من أن السعودية لن تؤيد بأي حال من الأحوال استقلال الجنوب، وما حديثها عن فدرالية من إقليمين إلا طعم أرادت من خلاله استدراج البيض إلى مصيدتها، لا يزال نائب الرئيس الأسبق مصراً على إقحام شباب عدن والضالع في معركة تظهر غريبة عنهم، معركة أدت حتى الآن الى مقتل عشرات الشبان بينهم فارس الضالعي أحد أقدم الأسرى الجنوبيين، وتدمير منازل المدنيين وتهجيرهم وتحويل حياتهم إلى جحيم... «ولكن ما العمل؟ إنه علي سالم البيض، رجل الصفقات الخاسرة»، يختم المصدر الجنوبي.




«لا يرى إلا نفسه»

تُحمّل تياراتٌ من الحراك الجنوبي علي سالم البيض (1939) مسؤولية انقسام الحراك وتشتته وضعفه منذ نحو 6 سنوات، تاريخ عودة البيض الفعلية إلى الحياة السياسية وسعيه إلى استقطاب الحراك. يقول هؤلاء إن البيض الذي يملك ثروةً طائلة «لا يرى إلا نفسه»، وإنه لا يقبل إفساح المجال لغيره من قادة الحراك كي يبقى هو في الصدارة، بحسب مصدر من داخل «الحراك»، الذي يضيف أن العدوان السعودي مثل ضربة قاضية للحراك ولمطالبه. في السابع عشر من أيار الماضي، شارك البيض الذي وقع اتفاق الوحدة مع الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح لتأسيس الجمهورية اليمنية (1990)، في «مؤتمر الرياض» الذي جمع الشخصيات اليمنية الداعمة للعدوان في وجه الجيش و»أنصار الله»، وذلك بعد لقائه رئيس الحكومة المستقيلة خالد بحاح في الرياض للمرة الأولى، الذي امتدحه بصورةٍ لافتة عبر موقع «فايسبوك»، متعهداً آنذاك «لملمة جراح الماضي مع البيض في إطار عادل».