القدس المحتلة | «الجار قبل الدار»، مثل فلسطيني يحثّ على اختيار الجار الجيد قبل النظر في المسكن، ولكن هذا المثل قد لا يصلح تطبيقه على واقع من يريد أن يسكن في بلدة القدس القديمة. فإذا أراد كل مقدسي أن يسير حياته على هذا المثل أضحت البلدة القديمة خالية من سكانها، لكون «الجيران» المستوطنين لا يتركون سكانها الأصليين بخير. ويقول المقدسيون إن وجود المستوطنين يشكل تعكيراً لصفو حياتهم، بل يصفون جيرانهم بأنهم «حقد أسود» ابتلوا به.
«من شدة حبي لبلدة القدس القديمة التي ولدت فيها، تركت منزلي في قرية كفر عقب (شمال القدس المحتلة) واستأجرت بيتاً في منطقة باب السلسلة المؤدية إلى المسجد الأقصى»، يقول المقدسي عماد أبو خديجة، ولكنه يذكر أنه من عام 2008 وهو في صراع مع المستوطنين الذين يتوافدون على بيت حولوه إلى كنيس، وهو ملاصق لمنزله الذي لا تتعدى مساحته أربعين متراً.
ويبدو أن بيت أبو خديجة صار «نقطة استراتيجية» للمستوطنين، خاصة أن له باباً قريباً من باب السلسلة (أحد أبواب الأقصى)، وهذا الباب يتخذه المستوطنون مخرجاً من المسجد بعد انتهاء اقتحاماتهم اليومية، كذلك لدى عماد شرفة تطل على ساحة وحائط البراق «يتمنى» المستوطنون الحصول على هذه الإطلالة قبالة الساحة التي حولوها إلى «مبكى» لهم، لذلك يعملون على «تطفيش» الرجل من منزله.
تقف شرطة الاحتلال
دوماً في صف المستوطنين
ولا تنهي مضايقاتهم

وعملياً، يدرس الشباب الصغار في تلك الكنس الحقد على العرب، وسرعان ما يبدأون تطبيق ما تعلموه انطلاقاً من 70 بؤرة استيطانية داخل البلدة القديمة، ويسكن فيها ــ حتى الآن ــ أكثر من 500 مستوطن من أصل 3500، إذا أضفناهم إلى المستوطنين الذين يسكنون في حي المغاربة بعدما هجروا أهله منه وبنوا مساكنهم على أنقاضه.
ولا يحدد المستوطنون ساعة معينة لبدء إجراءات «التطفيش»، ولكنهم عادة ما يفضلون ساعات الليل، فيقفزون من كنيسهم إلى شرفة بيت أبو خديجة مثلاً ليكملوا سهرتهم فيها، وعندما يستدعي عماد شرطة الاحتلال لتمنعهم من التسلسل، يفاجأ باقتراح الشرطة أن يبقى المستوطنون في الشرفة المطلة على حائط البراق بشرط أن يتكلموا بصوت خافت!
يقول أبو خديجة: «يتعمد المستوطنون مضايقتنا كل يوم، فبعد منتصف الليل يبدأون الصراخ والرقص وشرب الكحول، أما في النهار فتمنع القوات الخاصة المكلفة حمايتهم وحماية الكنيس زوجتي من أن تنشر غسيلنا على الشرفة ويطلبون منها أن تأتي بإذن من الشرطة لفعل ذلك!».
الأمر الأكثر إرهاقاً أن شرطة الاحتلال تنصب حاجزاً يومياً قرب بيته، وتظل تطلب هوياتهم عند مرورهم عبره، رغم أن الجنود المتمركزين عليه يحفظون سكان تلك المنطقة عن ظهر قلب.
وعماد ليس الوحيد الذي يعاني من وجود كنيس يهودي بجوار بيته، فإذا عبرنا طريق الواد المؤدية إلى المسجد الأقصى يقابلنا عدد من البيوت التي سيطر عليها الإسرائيليون ويحولونها في الأعياد اليهودية وأيام السبت إلى كنس يتوافد عليها المستوطنون لأداء صلواتهم التلمودية، وأبرزها بيت أرئيل شارون الذي يسبب المستوطنون القادمون إليه مضايقة المحالّ التجارية الملاصقة له، وخاصة مقهى السنترال الذي يجمع سكان البلدة خلال السهر، فحاولوا أكثر من مرة شراءه، وعند رفض صاحبه (الحاج عاشور جويلس) بيعه رفعت بلدية الاحتلال ضريبة الأرنونا (الأملاك) المتعلقة بالمقهى حتى تراكمت عليه ووصلت إلى مليون دولار.
وبالاتجاه إلى أكبر كنيس يهودي في الحي الإسلامي داخل البلدة القديمة، وفي عقبة الخالدية، تكبر معاناة السكان المجاورين له الذين يعبرون مع المستوطنين من باب واحد للدخول إلى بيوتهم، مع تكرار الاعتداء على أطفالهم، وحرمانهم الجلوس أمام بيوتهم. يقول المقدسي نسيم رجوب القاطن هناك: «كل يوم يقوم المستوطنون الذين يتوافدون إلى الكنيس بإلقاء النفايات على بيوتنا وكذلك رشقنا بالحجارة».
الهمّ نفسه يشكوه المواطن عايد كستيرو الذي يسكن في حي القرمي وتحيط البؤر الاستيطانية بمنزله، ويقول إن محاولات جبره على ترك المنزل تعددت حتى وصلت الحال بالمستوطنين إلى أن يجلبوا جماعات من «زعران اليهود» فيخلعون ملابسهم ويرقصون وهم عراة، كما يتلفظون بكلمات نابية وهم يشربون الكحول. ويؤكد المقدسيون أنهم يدركون هدف الاحتلال الساعي إلى جعل البلدة القديمة فارغة من سكانها الأصليين، تمهيداً لجعل عبارة أن «القدس الموحدة عاصمة لدولة إسرائيل» أمراً واقعاً، فإن لم تجبر الضرائب المقدسيين على الخروج من المدينة، فإن المستوطنين كفيلون بهذه المهمة، علماً بأن غالبية بيوت البلدة القديمة هي منازل أثرية، لذلك لا يسعى الاحتلال إلى هدمها مثلما يحدث في المدينة والقرى المحيطة بها، إلا إن حاول أحد القاطنين في البلدة زيادة غرفة في منزله.