نجحت أمس اللجان الأهلية في مدينة الدمام شرق السعودية في إحباط الهجوم الانتحاري لتنظيم «داعش»، الذي استهدف مسجد الإمام الحسين الواقع في حي العنود، ذي الغالبية الشيعية. ثلاثة شبان من اللجان افتدوا بأنفسهم مئات المصلين الذين كانوا يستمعون إلى خطبة الجمعة داخل المسجد. بدأت الإجراءات، منذ مساء الخميس، حين طُلب من النساء عدم الحضور إلى المسجد الذي يتسع لخمسة آلاف مصلٍّ، ليسجَّل إنجاز نوعي للجان الأهلية. إنجاز حاولت وزارة الداخلية السعودية سرقته ببيان، ادعت فيه أنها هي التي كشفت سيارة الانتحاري، إلا أن المعلومات أكدت أن إحباط العملية كان بالكامل لهذه اللجان، المصرّة على مواصلة عملها كخيار وحيد لحماية أهالي المنطقة، كما هي الحال في القطيف المجاورة.

حواجز خراسانية تحيط بالمساجد والحسينيات، سلاسل معدنية وحواجز من الأسمنت والحديد، العيون مفتحة، شباب الأحياء يراقبون السيارات والمارّة، اليقظة والحذر يخيّمان على الأهالي، حراسات ليلية يتناوب عليها رجال المحلّة، الغرباء والسيارات المركونة بصورة مريبة، كلها موضع شك وشبهة حتى يثبت العكس. هنا ليست «الضاحية الجنوبية لبيروت»، إنها منطقة القطيف، شرق الجزيرة العربية، بمدينتها وبلداتها، بعد التفجير الدامي الذي طاول مسجد الإمام علي بن أبي طالب في بلدة القديح يوم الجمعة الماضي.
ما تقوم به
اللجان الأهلية في منطقة القطيف لن يتوقف

يعود أحد أبناء منطقة القطيف، وهو ناشط سياسي، بالذاكرة إلى عام 2005، فـ«تجربة اللجان الأهلية تعود إلى ذلك التاريخ»، بحسب ما يؤكد مستحضراً أجواء الشحن المذهبي والأعمال الطائفية المتصاعدة في العراق، حين كان تنظيم «داعش» لا يزال في رحم «القاعدة»، منفذاً أعتى عملياته الانتحارية وهجماته الإرهابية على المسلمين الشيعة هناك.
كانت التفجيرات قد بلغت ذروتها، أيام إحياء مراسم «عاشوراء»، ترافقها تهديدات ضد «الرافضة» في كل مكان. في ذلك العام، أطلقت السلطات السعودية حملة «التضامن الوطني ضد الإرهاب»، وكان أبناء منطقة القطيف الذين استشعروا الخطر ورأوا في أنفسهم المستهدف الأول من موجة الإرهاب التكفيري، جزءاً من هذه الحملة. انطلقت مبادرات أهلية، ونشط بعض الشبان في مجموعات غير مترابطة، عاملين على تأمين حراسة المساجد والحسينيات، وذلك بالتعاون مع الدولة والسلطات الرسمية.
في ذكرى «عاشوراء» من عام 2005، كان عمل هذه اللجان فاعلاً، حيث اتخذت هذه المجموعات إجراءات احترازية في القطيف وساحة «القلعة» وسط المدينة، أسهمت في تأمين المواكب والمسيرات التي تخرج لإحياء هذه الشعائر، رافعة للمرة الأولى شعار «كلا كلا للإرهاب». لم تمر تلك الأيام بهدوء تام، فقد سجلت حادثة اختطاف أحد رجال الدين من أبناء المنطقة وهو شيخ ضرير يدعى إبراهيم الغراش، قبل أن يُعثَر عليه مرمياً في الصحراء، ووجهت أصابع الاتهام حينها إلى مجموعة وهّابية متشددة.
لم تنقطع تجربة اللجان الأهلية في منطقة القطيف، بعد عام 2005، فالمجموعات التي تتركز أعمار المتطوعين فيها بالفئات العمرية الشابة، لا تغيب عن المناسبات العامة. وإضافة إلى الفعاليات الدينية التي تقام في المساجد والحسينيات، يسهم هؤلاء في تنظيم المهرجانات الشعبية، بما فيها تلك التي تقام برعاية السلطة الرسمية، كمهرجاني «الدوخلة» و«واحتنا فرحانة» الذين يقامان في عيد الأضحى من كل عام. وقد اكتسب عدد كبير من هؤلاء المتطوعين خبرة تنظيم الحشود الشعبية، من خلال مرافقة أهالي القطيف في حملات الحج والعمرة، وهي الحملات الأكثر تنظيماً في البلاد. كذلك يشترك شبان اللجان في أنشطة مدنية كحملات تنظيف الشوارع وغيرها من الأعمال التطوعية.
بعد الهجوم الانتحاري على مسجد القديح، مثّل تشييع 21 شهيداً ممن قضوا في التفجير التحدي الأبرز أمام أهالي القطيف. المشاعر كانت تختلط بين ضرورة خروج الحشود الشعبية، يوم الاثنين، رغم التهديدات الأمنية كرد على الاعتداء الدامي، وبين غضب انتاب أهل القطيف من السلطات الرسمية، على اعتبار أنها شريكة في الجرم عبر منابر التحريض الطائفي والخطاب التكفيري المنفلت، الذي لم تقم الحكومة السعودية بضبطه يوماً، وما وضعت له رادعاً. غضب جعل القطيفيين يقبلون التحدي، وينظمون مسيرة وداع الشهداء، من دون مؤازرة قوات الأمن التي انكفأت إلى حدود القطيف. أعداد المشاركين في المسيرة لم تعرف سابقة لها على الإطلاق، فوفق أرقام جريدة «الرياض» التابعة للنظام السعودي، خرج في تشييع الشهداء الاثنين الماضي «نصف مليون». مئات الآلاف امتدوا من مدينة القطيف على طول الشارع المؤدي إلى بلدة القديح، في مشهد سجل نجاحاً منقطع النظير لتجربة اللجان الأهلية، التي تولّت الجانبين الأمني والتنظيمي في مسيرة التشييع.
بموازاة ذلك، لم يخل مشهد التشييع من الرسائل السياسية الواضحة، فغياب العلم الرسمي الذي يتوسطه سيف آل سعود كان أبرز هذه الرسائل من أبناء منطقة عانت ولا تزال من سياسات التهميش والتمييز، وذلك على عكس ما جرى يوم تشييع شهداء اعتداء الدالوة في الأحساء، حين لفّت نعوش الضحايا بالعلم السعودي وتولت قوات الأمن تنظيم المناسبة. كذلك شهدت مسيرة الاثنين تصويباً واضحاً على دعاة الخطاب التكفيري، ونظم لاحقاً معرض قرب خيم العزاء في بلدة االقديح، يوثق تغريدات المحرضين وتصريحاتهم.
في الجانب الأمني، يؤكد الناشط االسياسي القطيفي لـ«الأخبار» أن ما تقوم به اللجان الأهلية في منطقة القطيف لن يتوقف، وهو بات اليوم ضرورة ملحة يتطلبها الظرف الخطير، فالاستهداف المستمر منذ جريمة الدالوة والدولة عاجزة عن حماية شعبها. هو شدد على أن هذه اللجان، التي دعا إلى تفعيلها الشيخ عبد الكريم الحبيل، أحد رجال الدين البارزين في منطقة القطيف ــ ولاقت دعوته تأييداً شعبياً واسعاً ــ هي لجان من أبناء المنطقة ولا تنتمي إلى تشكيلات سياسية، وهي لا تقدم نفسها بديلاً من السلطات الرسمية ولا تحمل سلاحاً، مستدلّاً على ذلك بالقبض على أحد المشتبه فيهم قرب خيم العزاء في القديح وقد سلم مباشرة للسلطات. مطالب القطيفيين اليوم هي استعادة تجربة 2005، إلى جانب المطلب الأبرز المتمثل بسنّ قوانين تجرّم التحريض الطائفي، والعمل الجاد على إسكات أبواق الفتنة ومحاسبتهم، ففي مكان ما يمكن أن تشكل هذه الأحداث فرصة لهذا النظام لتغيير سياساته. أما ما يحاول إعلام النظام السعودي تسويقه، من خلال المشادة الكلامية بين ولي العهد وأحد أسر الضحايا، التي يتوعّد فيها محمد بن نايف بمحاسبة كل من يأخذ دور الدولة، فتعتبر، بحسب المصدر ذاته، محاولات غير مبررة لا تفسر سوى أنها «عبارة عن عنتريات لتبريد الرؤوس الحامية داخل نظام آل سعود».