مع كل خطوة واحدة يتقدمها الجيش السوري في عمق بلدة داريا، جنوب غرب دمشق، تعلو صراخ المعارضة ووسائل إعلامها. تستمر نداءات استغاثتهم مع تضييق مساحة سيطرة المسلحين المحاصرين داخلها، ولا سيما بعد أن فصل الجيش البلدة عن جارتها المعضمية، غرباً، مركز توفير مستلزمات المسلحين وذويهم.أضحت الطريقة، المذكورة، تكتيكاً سياسياً متّبعاً لقلب المعادلة العسكرية على الأرض، بالتزامن مع أي تراجع للمسلحين. يعي المقاتلون السوريون، على جبهة داريا، هدف «النداءات» الدولية حول ضرورة إدخال مساعدات إلى البلدة، التي تتوازى مع تحقيق أيّ إنجاز عسكري جديد يحققونه. فتضييق الحصار على المسلحين يصعّد من لوم الجيش، تحت ذرائع «إنسانية»، تتعلّق بالمدنيين الباقين في المدينة.
تُعَدّ داريا رمزاً للصراع، الذي امتد لأكثر من 5 سنوات. البلدة المشهورة بزراعة العنب، وصناعة المفروشات، صارت معروفة بمقدار محاولات التقدم والتراجع التي قام بها الجيش، في خلال فترة وجوده على عدد من محاورها.
ليس سهلاً الدخول إلى داريا، كذلك تحريك آلية واحدة، من آليات الجيش هناك، وتحديداً في خلال فترة «الهدنة» (بناءً على الاتفاق الروسي – الأميركي)، دون إذن الضباط ذوي الرتب العالية. الأوامر اللاسلكية هي سيدة الموقف، والتواصل مع القيادة العسكرية يجري في أدق التفاصيل. «الهدنة» التي مرّت على البلدة أدخلت الجنود والضباط في فترة من الهدوء الحذر، سرعان ما انتهت بأعنف الاشتباكات.
صوّر في المدرسة الشرعية أحد الأفلام الشهيرة عن «داعش»

في طريقك إلى داريا، يبدو واضحاً مطار المزة من مدخلها، إضافةً إلى شوارعها ومبانيها المتهدمة، والمتهالك معظمها. «البيوت الكثيرة» هو معنى اسم داريا في اللغة السريانية. وهو معبّر عن واقع المدينة اليوم، غير أن بيوتها الكثيرة، ودُورها التي كانت عامرة بما يزيد على 250 ألف نسمة، باتت مدمّرة وفارغة. المدنيون نزحوا منذ بداية الصراع باتجاه المناطق المجاورة، وأبرزها معضمية الشام، إضافةً إلى مناطق أُخرى، منها ما هو تحت سيطرة المسلحين في غوطة دمشق.
تكشف الجبال المسماة «جبال الفرقة الرابعة»، داريا ومحيطها من المناطق والبلدات. غير أن كل شيء يغيب وسط كتل الأبنية، حيث يتخفّى مئات المسلحين ضمن الطبقات الأرضية وعبر أنفاق عديدة. يحاول الجيش الحدّ من خطرها عبر حفر أنفاق مقابلة، وتفخيخها، بانتظار عبور المسلحين من خلالها إلى نقاط تمركز الجيش. أما قناصوها، فيمارسون لعبة التخفي التي يتقنها قناصو الجيش في المنطقة أيضاً، والتي تسمح بوقف أي تقدّم، عبر استهداف قوات المشاة واصطيادهم، دون القدرة على الوصول إلى القناص بدقّة، مهما اشتد القصف على مصادر إطلاق النيران، غير المحددة.
المدرسة الشرعية، وسط المدينة، كانت مكاناً مثالياً لتصوير أحد الأفلام السينمائية الشهيرة عن تنظيم «داعش». الكتابات التي خلّفتها ضرورات التصوير، استحضرت تنظيماً غير موجود في المنطقة، غطّى افتراضياً، آثار المسلحين الحقيقيين، من «جبهة النصرة» وغيرها من الفصائل، وتهديداتهم الطائفية للمقاتلين السوريين الذين ردّوا بدورهم على التعليقات المكتوبة على جدران المدرسة بـ«أحسن» منها. إلا أن آثار التصوير التي مرّت من هُنا، غيّرت في ملامح المكان، فبدا مألوفاً، بين دمار المباني المجاورة الذي لا يمكن فهمه أو تعوّده.
تصل الأخبار من الخط الأمامي، للجبهة الجنوبية الغربية. سيطر الجيش على أراضٍ زراعية جديدة، بدا جامع نور الدين الشهيد، أقصى جنوب المدينة، نقطة انطلاق معارك جديدة، في خلال الشهرين الماضيين. يستمر ضغط الجيش باتجاه الجنوب والشرق، ما يعني تقلّص المساحات التي ينتشر المسلحون داخلها، واستشعارهم بالخطر القريب، في ظل استمرار قضم الجيش لمبانٍ جديدة يومياً، لإجبار المسلحين على الاستسلام وإعلان البلدة آمنة، بنحو نهائي.
تقدّر وسائل إعلام المعارضة عدد المدنيين الباقين في المدينة بما يزيد على 6 آلاف نسمة، فيما تنفي تقديرات الجيش وجود هذا العدد في المناطق التي تسيطر عليها الميليشيات المسلحة. يقول العسكريون أن قلّة من المدنيين ما زالت في المدينة، غير أنهم يصنّفون من ذوي المسلحين، الرافضين الخروج بعيداً عن أبنائهم، رغم فسح المجال للخروج أمام الراغبين منهم، على مدار السنوات الأربع الماضية.
خطورة الصراع وصعوبته في داريا تأتي من خطورة موقعها المجاور لحيّ المزّة (يبعد عن وسط العاصمة دمشق 8 كلم، جنوباً). كل ذلك لم يمنع الجيش، في الأيام الماضية، من إحراز تقدّم جديد أدى إلى تطويق المسلحين، ضمن مبانٍ تمتد على نحو 1 كلم مربع.
أما حملة «هي لله»، التي أطلقها مسلحو الجنوب السوري، لنصرة داريا، فلم تلقَ تصديقاً من المتمركزين في داخلها، إذ رأى معظمهم أن المسلحين الذين يأخذون تعليماتهم من غرفة «الموك»، خارج الحدود الجنوبية للبلاد، أحرى بهم أن يطلقوا معركة «هي للدولار»، بحسب كلام «التنسيقيات». وعليه، فقد شاعت أنباء عن مفاوضات بين الطرف السوري ومسلحي داريا، للاتفاق على إنهاء الصراع سياسياً في المدينة، وخروج المسلحين الرافضين للحل من المدينة، إلى وجهة لم يتفق عليها بعد، في وقتٍ تتصاعد فيه الحملات والصرخات لإنقاذ المدنيين في داريا، كلّما تقدم عناصر الجيش أكثر ضمن كتل الأبنية في عمق المدينة المنكوبة.




«الحر» يُلزم شباب داريا بالتجنيد
أعلن «المكتب القضائي في داريا»، في بيانه، أمس، «النفير العام لصدّ هجمات النظام المتصاعدة تجاه المدينة». وقال إن «التجنيد سيكون إلزامياً لجميع الشباب البالغ والقادر على حمل السلاح»، مؤكّداً أن «من يحاول تسليم نفسه للعدو، سيعاقب بالأشغال الشاقة لمدة شهرين»، فيما تُشدّد العقوبة إلى ستة أشهر إذا «رافق تسليم سلاح أو عتاد حربي».
وبحسب مواقع المعارضة، فإن «إعلان النفير يأتي بعد التقدم التدريجي الذي حققته قوات الأسد على أطراف المدينة في خلال الأيام الماضية»، حيث توغلت نحو الأحياء السكنية في داريا، من المحور الجنوبي الغربي، في ظل «مقاومة عنيفة من فصائل الجيش الحر».